يزداد مشهد فواجع الحرب الإسرائيلية تعقيداً وسوءاً وانحدرت على أثره الأوضاع الإنسانيّة بغزة إلى قاع سحيق تشوبها عمليات إبادة جماعية ومن بعدها لبنان الواقف على شفا جرف هار، وقد سكن الخراب والدمار قرى الجنوب بكاملها وانتهكت قوات الاحتلال حرمة الأرض.. ترتكب أفعالا إجرامية درجت عليها يطويها صمت دولي مريب على أمل يخالج صدر بنيامين نيتانياهو، رئيس وزراء إسرائيل، إطفاء وهج جبهات المساندة والتأكيد على قوة بطش الدولة اليهودية بكل من توسوس له نفسه المساس بأمنها أو إعاقة مشروعها الاستعماري.
تتوهم قيادات الدولة الإسرائيلية بأن القوة المسلحة ستؤدي إلى وأد المقاومة وتجبر جبهات المساندة على الصمت التام.. غاب وعيهم أن التجربة سوف تثبت أنه لا يمكن نزع أوصالها وتغيير عقيدتها وتفكيك بنيانها.. حتى لو اغتالت قياداتها المؤثرين.. يوما تنبت الأرض غيرهم.. فذلك النهج لم يعد قرارا تكتيكيا وإنما يمثل إستراتيجية تعتنقها أطراف المقاومة ولن تتراجع قيد أنملة عن استمرار الجهاد لتحرير الأرض وستظل تلك الجبهات مشتعلة وربما تتحول من المساندة إلى الانخراط الكامل والمباشر في الحرب إذا ما تطورت الجبهة الشمالية بلبنان وشعرت قوى المقاومة بأن "حزب الله" بات يحاصره الخطر الشديد.
إن نقل ثقل القتال تجاه الحدود الشمالية يمكن النظر إليه بتأثيرات إيجابية وأخرى سلبية على حرب غزة.. أما السلبية فتتمثل بانشغال عالمي بالأحداث في لبنان أكثر مما يجري بغزة وتكمن الإيجابيات بتوسيع جبهة الاستنزاف وجعل المواجهة أكثر تأثيراً على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وقد ساد اعتقاد بأن ذهاب قوات الاحتلال إلى جنوب لبنان من شأنه تخفيف الضغط العسكري الجاثم فوق صدر غزة وهذا يجافي واقعا مؤلما تعيشه..
فبرغم اشتداد المواجهة مع "حزب الله" يتصاعد العدوان لدرجة أن ما يجري بالقطاع تشبه حدته أيام العدوان الأولي. أراد بنيامين نيتانياهو، رئيس وزراء إسرائيل، خطف الأنظار عما يرتكبه من مجازر بشعة بحق سكان غزة ليفرض واقعا جديدا يرسخ جذوره.. فاستغل الانشغال بالشمال وانطلق ينفذ مخططا عصيبا بطي الكتمان.. فيعيد تشكيل القطاع بغياب الأضواء الدولية وإخضاعه دون ضجيج فيما بات يعرف بخطة الجنرالات الهادفة لإسقاط حكم "حماس"، وقد يبلغ ما يخطط له الغاية بنشر الخراب والدمار ولكن لن يمكنه بالقضاء على عناصر المقاومة.
هناك ارتباط وثيق بين ما يحدث في غزة وما يجري بجنوب لبنان.. فقد ساندت الجبهة الشمالية المقاومة الفلسطينية على مدى فترة الحرب وأعلن "حزب الله" مرارا أن وقف عملياته تربط وثاقا بإنهاء الحرب على القطاع وهو ما شكل ورقة ضغط بيد المقاومة الفلسطينية على طاولة المفاوضات مع إسرائيل.
باءت المحاولات الأمريكية المتكررة بالفشل ولم تؤت ثمارها اليانعة بفصل جبهة لبنان عن غزة.. فقد وجدت رباطا وثيقا بينهما يصعب قطع وصاله الممدود.. فاتجهت الحرب الإسرائيلية صوب الجنوب تسعى لممارسة الضغوط على الشعب اللبناني وشق وحدة صفه وإحداث الفتنة وذلك النهج بدا قريبا لسياستها بغزة.. سوف تواجه قوات الاحتلال مقاومة شرسة إذا ظل عدوانها على وتيرته السائدة ويدفع نهج محور المقاومة من إسناد لانخراط كامل وهناك مؤشرات تلوح في الأفق يعجز البعض عن قراءة ما في باطنها بساحتى اليمن والعراق وقادم الأيام سيجعلها أمام جبهة عريضة وممتدة تتحلى بقوة القتال..مما يشكل بتداعياتها عامل ضغط ليس على إسرائيل وحدها وإنما يطول أثرها أمريكا والدول الغربية.
يبدو أن ما قامت به إسرائيل دفعها هروبا من مأزق هوت بقاعه في غزة إلى آخر تقف على حافته بلبنان وقد خارت قواها رغم قسوة أفعالها الإجرامية ولم تبلغ أهدافا ذهبت لتحقيقها يأتي بصدرها إعادة المستوطنين للشمال وقطع وصال جبهات المساندة وسيستمر مسارها على الدرب حتى تصطدم بواقع تعترف فيه بعدم قدرتها على بلوغ أهداف جاءت لأجلها وعجزها عن تقويض المقاومة من الداخل والخارج.. كونه مخططًا يصعب تنفيذه.. إلا من خلال إحداث تغيير جيوسياسي للمنطقة بكاملها وحينها يمكن إيجاد مسار سياسي وتسوية تشمل جميع أطراف المقاومة.
فرض واقع الحرب في غزة ومن بعدها لبنان معضلة تفضي بنهاية المطاف لاستمرارها.. حتى لو وافق "حزب الله" على فصل جبهة لبنان عما يجرى بغزة.. فدولة الاحتلال الإسرائيلي لديها مخطط لوضع ترتيبات أمنية جديدة على الحدود الشمالية، وهذه الترتيبات تعني اعتراف المقاومة بالهزيمة وليست على مبدأ التبادلية.. كما أن نيتانياهو لن يوقف الحرب ولو أعلنت المقاومة الفلسطينية و"حزب الله" القبول بالشروط الإسرائيلية الأمريكية.. فمشروعه يجمع ما بين منطلقات أيديولوجية دينية وأبعاد جيوسياسية ومصالح سياسية وما زال بذات الوقت سقف الأهداف الإسرائيلية متسعا وما يعلن عنه من أهداف حتى الآن سواء بغزة أو لبنان هي أهداف مرحلية تكتيكية.
(الأهرام المصرية)