يحبس إقليمنا العربي في الشرق الأوسط، أنفاسه، وكأنه مسجى على طاولة المصير، وموعود منذ عقود، بمخاطر تغيير في خرائطه السياسية والجغرافية، وفي ملامحه وتوازنات قواه. وقد قيل الكثير عن هذا الإقليم، عن موقعه الاستراتيجي وثرواته، ورمزيته الحضارية، وتنوعه الاجتماعي، وجاذبيته التي تغري الغزاة والمغامرين.
ورغم أن نظريات تغيير خرائط الشرق الأوسط، ليست جديدة، إلا أن هذه الحرب الوحشية المشتعلة منذ أكثر من عام، في غزة ولبنان والضفة المحتلة، هي الأكثر احتمالاً لفتح مسارب، تمهد الطريق لتغيير الخرائط، بعد محاولات لزرع بذور أولية لإعادة رسم خرائط عدد من الدول العربية على أسس طائفية وعرقية ومذهبية ولغوية وجهوية في مرحلة ما سمي "بالربيع العربي"، وما قبله من احتلال للعراق، وإشعاله صراعات وتقاتل وتدخلات خارجية، وصناعة عدو وهمي، يبدو للناس أنه أكثر خطراً من غازٍ فعلي، وتحويل هذا الأخير إلى منقذ.
في مطلع القرن الحالي، سادت دعاوى "بناء شرق أوسط جديد" من خلال سياسات "الفوضى الخلاَّقة" وبلقنة الإقليم العربي، على شكل "دويلات جهادية" وأخرى عرقية أو طوائفية، وتحت شعارات زائفة: لتصدير "الديمقراطية"، وكانت المحصلة تدمير دول، وتحويل أخرى إلى دول فاشلة أو هشة، وتصاعد في منسوب العنف، وتمزق النسيج المجتمعي، وتنافس في الأدوار والأجندات الأمنية بين قوى الإقليم، وشلل في منظومات العمل القومي والفرعي.
إن تغيير الخرائط السياسية بالقوة العسكرية. أمر على درجة عالية من الخطورة، وتعلمنا دروس التاريخ، أن فوزاً قد يتحقق في المدى القصير، لكنه ينتهي دوماً إلى هزيمة. إن ما تقوم به إسرائيل، من مغامرات عسكرية مفرطة في وحشيتها، لفرض هيمنتها على إقليم الشرق الأوسط، هو نموذج صارخ لإعادة رسم خرائطه، ويجري بلا مساءلة ولا عقاب، رغم ما يتضمنه من أفعال إبادة وتطهير عرقي وتهجير قسري، لا تخفى على أحد في المجتمع الدولي، ولا أوهام في خياراتها ونواياها.
إن الإصرار الإسرائيلي، على الإقامة الدائمة داخل الحروب، طوال سبعة عقود ونصف يُجسِّد تماماً نظرية (جابوتنسكي) والقائمة على: "ضرورة الاستخدام الدائم للسيف على الرقاب" وعلى فكرة: "أن أي مساحة أرض. يصل إليها الجندي الإسرائيلي فهي ملك له"، وقد أضاف إليها نتنياهو، بعداً آخر، وقال: "إن أيادينا تطال كل مكان في الشرق الأوسط".
وقد سبق لنتيناهو، أن نشر في كتاب له، بعنوان (مكان تحت الشمس)، عصارات للفكر الصهيوني الاستيطاني والتوسعي والإحلالي، وتضمن رؤيته لخريطة جديدة للشرق الأوسط، ولموقع إسرائيل المهيمن فيها. ونستحضر ما قاله زعيم عربي، عرف باعتداله، وبخطابه العقلاني، وهو المغفور له الملك حسين، وقد وصف نتنياهو، حينما انتخب رئيساً للحكومة الإسرائيلية في عام 1996، وقال: "إن بقي هذا الرجل في الحكم، سيحيل المنطقة إلى بركة دماء".
من ناحية أخرى، فإن عودة ترامب الثانية إلى البيت الأبيض، أيقظت لدى حكومات وشعوب كثيرة في العالم، هواجس وأوجاعاً كثيرة، وبخاصة في عموم الشرق الأوسط. نعم... فاز ترامب بالتصويتين الشعبي والمجمع الانتخابي (كبار الناخبين)، وبأغلبية في مجلس الشيوخ وحكام الولايات المتحدة.
فوز كاسح، لشخص يميني محافظ، لا يمكن التنبؤ بقراراته ومواقفه، مغامر ورجل صفقات، يوحي بظلال من الشك على التزاماته الخارجية طويلة الأجل للحلفاء في الخارج، يظن أنه قادر على وقف الحروب، وعلى إطفاء الشمس، وتوسيع مساحات بحار "قرصان" الشرق الأوسط، ويتساءل: "عن وجود طريقة للحصول على مزيد من المساحة لإسرائيل، لأنها تبدو بقعة صغيرة جداً، مقارنة بهذه المساحات الشاسعة حولها".
وها هو يختار في إدارته نخبة من صقور دعاة الحروب، وغلاة اليمين، تبشر بغدٍ أكثر عنفاً، تذكرنا بشراسة وغلواء نخب في إدارات أمريكية سابقة في عهود ريغان وبوش الأب والابن. وما أدراك ما صنعوا!! يحمل بعض نخب إدارته، تصورات وتأويلات ورموز إنجيلية (مسيانية) تتعلق بنهايات العالم، وتسوّغ عمليات الإبادة والتطهير العرقي، وقصف الذاكرة ومكوناتها لشعوب مغايرة. فريق في مجمله، حتى الآن، شعبوي الخطاب، مرشح للتحالف مع تيارات شعبوية يمينية أوروبية صاعدة، ستملأ الفضاء الدولي بالكوابيس في السياسة والاقتصاد والعسكرة والتقانة المنفلتة من عقالها الأخلاقي والقانوني.
أمام العالم، وبخاصة الشرق الأوسط، سنوات أربع قادمة (وربما ستتكرر للمرة الثالثة "بتعديل دستوري") على طريقة روزفلت (1932-1944) ، مستقبل معقد وغير واضح المعالم. ويبقى السؤال الحائر:.. هل سينتظر العرب، من يفكر نيابة عنهم في حل لهذه المتاهة، التي يسمونها الشرق الأوسط الجديد، كما حدث عام 1916، عندما رسم غيرنا تضاريسنا السياسية (سايكس البريطاني، وجورج بيكو الفرنسي، وبإشراف روسي). ؟
ويخطئ من يظن أن مصائر العرب، كل العرب غير متشابكة، حتى لو تباعدت مواقع الجغرافيا، ومفردات المصالح الوطنية، وتفاصيل قواميس خطاباتها، ومواقفها الظاهر منها والمستور أو المتردد. أخشى أن تطول هذه المتاهة وتتعمق، بقوة اللحظة الراهنة، وبالآلة الحربية والسيبرانية الجهنمية، ويكسر القوانين والمعايير الدولية والأخلاقية، وبإغلاق كل نوافذ العدالة والحلول الدبلوماسية.
تغيير خرائط الإقليم.. لا يقود إلاَّ إلى فتح صندوق (باندورا) على مصراعيه.
(الشروق المصرية)