عينٌ تتابع الأخبار والتطورات في العالم، وأخرى تتابع التعليقات والتحليلات في الإعلام العربي، خاصةً في ما يخص الشأن الأمريكي، في محاكاةٍ واستدعاءٍ لأيام يدٍ تبني ويد تحمل السلاح، المجيدة (أو المزعومة المجد وفقاً للقناعات والانحيازات الشخصية)، وذلك قبل أن تلقي السلاح الذي ما حملته إلا مضطرةً، كما يتبين الآن مع التأمل والتمحيص في ما صار تاريخاً ممتداً من الهزائم، وتتحول عوضاً عنه إلى يدين بل أيادٍ تدمر وتقمع بوتيرةٍ متسقة ومستمرة.
المهم، لا شك أننا نعيش الآن أوقاتاً شيقة، حروبٌ مستعرة في الشرق والغرب، منها حرب التطهير العرقي التي تخص وجودنا وكياننا، وأخرى توشك أن تهدد السلالة البشرية والكوكب، ناهيك عن تلك التي توشك أن تندلع في المناطق ذات التوتر التقليدي، كالذي بين تايوان والصين والكوريتين كأقرب مثال.
لكن وصلة المنوعات الممتدة، التي يبدو للوهلة الأولى كأنها تجمع بين "الفارس والسيرك" هي التطورات في الولايات المتحدة، خاصةً عقب انتخاب دونالد ترامب، الذي كأنه ملتزمٌ ومتعهدٌ بأن لا يرشح لحكومته، إلا المتعصبين وأرباب السوابق، أو من سبق اتهامهم ومحاكمتهم في دعاوى الاغتصاب وتسهيل دعارة الأطفال، وكلهم يتماثلون متميزين في انعدام الخبرة، في الملفات والوزارات الموكلة إليهم، أو مواقفهم المعادية والمتطرفة، مثل القس الإنجيلي الذي رشحه سفيراً لإسرائيل، والذي ينكر لا حق الشعب الفلسطيني في الأرض وحسب، بل ينكر وجوده كشعبٍ من الأساس، وآخر متهم بالاغتصاب، لوظيفة المدعي العام.
من الثابت أن ترامب لا يقيم أي وزنٍ أو اعتبارٍ سوى للولاء الشخصي الصارم والتام لشخصه التافه الجاهل الضئيل، لكن النرجسي لأبعد مدى والمعتد المنتفخ بنفسه حد الانفجار. غير أن هذه التطورات في البلد الأقوى عسكرياً في التاريخ، تفضح خللاً وسقماً وسأماً غايةً في العمق في نسيج هذا البلد ومجتمعه نتيجةً لأوضاعٍ اقتصادية متردية وتفاوتاتٍ طبقية وخوفٍ من المستقبل، أي ظاهرةٍ معقدة ليس هنا مجال تحليلها، إلا أنه ـ راكباً على هذه الموجة ـ يسعى ترامب في استغلال آليات الديمقراطية النسبية لبناء ديكتاتورية، وبذا فإن هذا السيرك المضحك والمسلي للوهلة الأولى، له جانبه المظلم المخيف الذي يدخلنا إلى عالم الـ"ديستوبيا".
والذي لا شك فيه أن مواقف ترامب ومن حوله مناوئةٌ لمصالح شعوبنا وحقوقنا التاريخية في طبعةٍ هى الأشمل والأكثر صفاقة، لذا، مدركين ذلك تماماً حيث لا مواربة تسمح بالتحايل على النفس، أو على الجمهور، فقد مضى المحللون العرب في العويل والندب على الأربع سنوات العجاف التي تنتظرنا، ولعلهم محقون في ذلك. إلا أن ما لا يُعار ما يستحقه من التفات هو السؤال الجوهري: هل تشارك الأنظمة الرسمية العربية الجمهور والمحللين هذه المخاوف؟
أعني بطبيعة الحال وراء الخطاب الرسمي والأبواب المغلقة في أروقة السلطة. الإجابة في رأيي هي النفي القاطع، بل العكس تماماً، فلعل مجيء ترامب، باندفاعه الأهوج الذي لا يثمن سوى القوة والمصالح المادية، والذي لا يعير التفاتاً إلى أي قيمة معنوية أو للحقوق التاريخية، هو بالضبط ما ينتظره ويحتاجه وما كان ينتظره النظام الرسمي العربي.
ترامب "المقاول"، رجل الصفقات الذي يفاخر بذلك يرى أن لكل شيءٍ سعراً، فهو يختلف جذرياً مع الراحل أمل دنقل، فكل الأشياء لديه تُشترى، الذمم والتاريخ والحق، كلها قابلةٌ للتشفير والتحويل إلى أرقام، هو نفسه قابلٌ لذلك يخضع لقانون السوق والعرض والطلب لذا، فكل الاعتبارات التي كانت تحكم الحسابات سابقاً خاصةً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي كانت تُحجم الخطاب والطرح الرسمي الأمريكي نوعاً ما، وتجبره على الرياء والتظاهر بالموضوعية، وإقامة اعتبارٍ للحق والوجود الفلسطينيين، الإنساني قبل الوطني والقومي، كل ذلك لا يعني ترامب في شيء.
إن أجندة ترامب المعلنة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية تتوافق تماماً مع أجندة الأنظمة وهي باختصار: تصفية هذه القضية، أو اعتبارها بمثابة "الدَين المُعد". لقد خض طوفان الأقصى الشعوب العربية خضاً عنيفاً، فأيقظها من خمولٍ نجحت الأنظمة بعد عناء من زرعه بعد هزة الثورات العربية، كما أن أجيالاً بأسرها نشأت في ظل مشاريع السلام والتطبيع، متصورةً أن ذلك هو "السلام العادل" ونهاية الصراع، بل التاريخ، أوقِظت وأثير فضولها وأنشأت تتعرف على هذه القضية، الأمر الذي لا تريده هذه الأنظمة، فهي تدرك وتخشى من أن تعود قضية التحرر الفلسطيني إلى السطح لتصير عنواناً وقاطرةً للتحرر العربي من هذه الأنظمة الميتة منتهية الصلاحية.
كما أن ترامب لا تهمه الشعوب العربية ولا حقوق الإنسان ولن يكلف نفسه مشقة التظاهر بالاهتمام، فهو يرى أن "ديكتاتوره المفضل" القاتل وإخوانه، كما وصفه بالحرف مناسبٌ تماماً لهذا البلد ولهذه المنطقة وهذه "العينات" من البشر والمخلوقات، والمقياس الحقيقي لصلاحيته من عدمها هو نجاحه في البقاء ومدى فائدته للمصالح الأمريكية، فانطلاقاً من مدرسة القوة والواقع، طالماً أنه نجح في الاستمرار، أياً كانت الوسائل ومهما سالت من الدماء، تعني أنه الذي يستحق البقاء.
لعل الأدق هو أن نزعم أن الأنظمة العربية تراهن على ترامب ليجهز برعونةٍ على هذه القضية بصيغةٍ ما؛ هي تتمنى ألا تثير هذه الطريقة شعوبها، لكنها تأمل في حلٍ باترٍ سريع، يجعل هذه القضية تاريخاً لا يلبث أن يُنسى، كما تستبشر به لأنه لن يحاسب أياً منه على أشياء من قبيل حقوق الإنسان والحريات. الأنظمة العربية متوافقة مع إسرائيل في ما يخص القضية الفلسطينية/ التي لم تعد تشكل بالنسبة لها سوى صداعٍ مزمن يطل برأسه كلما حسبته خمد؛ غاية ما هنالك ربما أنها لا ترى مبرراً ولا جدوى وربما لا تستسيغ كل هذه الدماء.
لا بد لنا من أن نفيق ونرى خلل الدخان، الحقيقة المؤلمة: إسرائيل وأمريكا والأنظمة العربية أجزاءٌ من منظومة واحدة. لا شك أن الأدوار تتفاوت بين قائدٍ كأمريكا ومقودٍ مفعول به كهذه الأنظمة، إلا أنها جميعاً في النهاية منظومةٌ واحدة متداخلة ومترابطة.
(القدس العربي)