ثقافة

المنصّات الرّقميّة الدراميّة... والذاكرة التاريخيّة - السياسيّة

"إنّه سحرٌ هائل"؛ بهاتَيْن الكلمتَيْن وصفت دوريّة الـ"نيويوركر" الأميركية أحد الأعمال الدرامية الذي جُسِّدت فيه شخصيّة أحد الأبطال الشعبيّين وقامت بإنتاجه المنصّة الرقميّة "نتفليكس". وفي محاولة لفهم أسباب نجاح هذا العمل، ذكرت دراسة صدرت مؤخّرًا أنّ الفضل في هذا النجاح يعود - إضافةً إلى شخصيّة البطل الشعبي الذي تحبّه الجماهير العريضة - إلى فاعليّة المنصّات الرقميّة في الانتشار العابر للقارّات ومن ثم الوصول إلى قطاعات واسعة من المواطنين والتأثير فيهم بدرجة أو أخرى.

المنصّات الرّقميّة الدراميّة... والذاكرة التاريخيّة - السياسيّة

استطاعت المنصّات الرقميّة الدراميّة أن تحلّ محلّ الكيانات الإنتاجيّة الكلاسيكيّة مثل "هوليوود" و"بوليوود" وغيرهما؛ إذ قدّمت نموذجًا إنتاجيًّا وثقافيًّا جديدًا ذا تمويل مهول أو ما وصفناه ذات مرة: "براديم انتاجي وثقافي جديد يقوم على تقنيّات رقميّة فائقة الإمكانات وتمويلٍ ضخم" يعتمد في اختياراته وتسويقه على استهداف جيل الشباب على ظهر الكوكب الذي يمثّل أكثر من 60% من إجمالي مواطني الكوكب. أجيال الشباب الرقمي المتعاقبة: من جيل الألفية إلى جيل "بيتا" (جيل الذكاء الاصطناعي) مرورًا بجيل "ألفا" فجيل "زد". لقد مثّلت تلك المنصّات الرقميّة استجابةً موضوعيةً للتحوّلات الجذرية - "الطفريّة" إن جاز التعبير - التي طالت أجيال الشباب المتعاقبة من حيث: أولًا: توفيرها مرئيّات إبداعيّة ومعرفيّة متحرّرة من أي سيطرة مركزيّة أو سلطويّة أو أبويّة/بطريركيّة. ثانيًا: أتاحت للشباب أن يعيش عوالم متنوعة من اختياره من دون وسطاء أو أوصياء.

في ضوء ما سبق، أنتجت المنصّات الرقميّة الدراميّة إبداعات متنوّعة في شتّى المجالات. ولعل من أهم المجالات التي اقتحمتها تلك المنصّات، الدراما التاريخيّة السياسيّة.

في هذا السيّاق، استوقفتني مسلسلات وأفلام تتناول وقائع وشخصيّات تاريخيّة، حيث تجسّدها دراميًّا من خلال معالجاتٍ متعدّدة الأبعاد ومن خلال تقنيّات فائقة الجودة تستحضر الماضي في أدقّ تفاصيله فيما يشبه "السحر" الذي يوفّر متعةً ذهنيّةً ونفسيّةً وعقليّةً للمشاهدين على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم. وفي الوقت عينه، تقوم بمهمة كبيرة في عملية التّكوين "الذاكراتي" التاريخي للمشاهدين فيما يتعلّق بالوقائع والشخصيّات التي يتمّ تناولها دراميًّا. وتدفع المشاهدين إلى إدراك أهميّة الوقائع التاريخيّة ودور/أدوار الشخصيّات الفاعلة في تلك الوقائع ما يجعل هذه الوقائع حيّة في الذاكرة، كما تُتيح الحكم الموضوعي - قدر الإمكان - على أبطالها.

دراما المنصّات الرقميّة التاريخيّة - السياسيّة فتحت نوافذ كي يُطِلّ منها المعاصرون على التاريخ السياسي للشعوب

من ضمن الموضوعات التاريخيّة السياسيّة التي أنتجتها المنصّات الدراميّة نذكر مسلسلاتٍ تناولت ما يلي: تاريخ بعض الممالك الأوروبيّة، وتاريخ إنكلترا منذ الحرب العالميّة الثانيّة وإلى الآن اقتصاديًّا وسياسيًّا من خلال سيرة الملكة إليزابيث، وتاريخ التشكّل الطبقي الإنكليزي في القرن الثامن عشر، وتاريخ الإمبراطوريّة العثمانيّة، وأحداث ووقائع واكبت التحوّل الديموقراطي في أكثر من دولة مثل: إسبانيا وتشيلي وصربيا، وروسيا، وعمليات مخابراتيّة جرت إبّان الحرب الباردة وما بعدها، وقضايا فساد سياسي، وكواليس البيت الأبيض، والأحداث العرقيّة في الولايات المتحدة الأميركيّة، وروسيا القيصريّة، وروسيا الشيوعيّة... إلخ.

وفي دراسةٍ حديثةٍ حول أثر الدراما الرقميّة في المشاهدين الذين يتابعون الأعمال الدراميّة التاريخيّة - السياسيّة تبيَّن أنّ بعضًا منها يحقّق: أولًا: من حيث الكمّ؛ نسبة مشاهدة، في المتوسط، تدور حول 100 مليون مواطن يعيشون على ظهر الكوكب في وقتٍ واحد. أما من حيث الكيْف؛ فقد دفعت الدراما التاريخيّة - السياسيّة المشاهدين على اختلافهم إلى السعي نحو مزيدٍ من المعلومات والتنقيب في أعماق الوقائع والشخصيّات أكثر فأكثر. وينبغي هنا الأخذ في الاعتبار حرص صنّاع الدراما الرقميّة التاريخيّة - السياسيّة على التزام الدقّة والموضوعيّة قدر الإمكان. وذلك لأنّ المشاهدين بات لديهم القدرة على التحقّق من صحّة الوقائع من جانب، والتأكّد من حقيقة أدوار الشخصيّات التاريخيّة - السياسيّة المختلفة إيجابًا أو سلبًا من جانبٍ آخر، في توقيت المشاهدة للدراما من خلال تقنيّات التواصل الاجتماعي المتجدّدة، ومحرّكات البحث المختلفة. كما تُتيح للمشاهدين الحوار وتبادل الرأي حول مضمون العمل الدرامي التاريخي - السياسي.

يشار إلى أنه تمّ رصد ردود أفعال تَنْتُج عن مشاهدة الدراما الرقميّة التاريخيّة - السياسيّة مثل: تبنّي مجموعة من المشاهدين - بخاصة من الشريحة الشبابيّة - تنظيم حملات إعلاميّة لردّ الاعتبار وإعادة النّظر في الوقائع والشخصيّات التاريخيّة - السياسيّة، والحوار عبر تقنيّات التواصل الاجتماعي حول مضامين الأعمال الدراميّة والتي تكون عابرة للحدود في أحيانٍ كثيرة. ويستدعي ما سبق من هؤلاء المشاهدين الفاعلين التطرّق إلى مساحات أوسع من تلك التي تناولتها الدراما الرقميّة حول الأحداث التاريخيّة وأبطالها من السياسيّين.

علينا التأسيس لذاكرة تاريخيّة - سياسيّة ينعقد حولها إجماعٌ قومي وليس إعادة تركيب التاريخ كيفما يراه كل طرف

ويؤكد أحد الخبراء على أنّ دراما المنصّات الرقميّة التاريخيّة - السياسيّة قد فتحت نوافذ كي يُطِلّ منها المعاصرون على التاريخ السياسي للشعوب. ويبدو لي أنّ المعاصرين ونظرًا لضعف مناهج التّاريخ في مراحل التعليم المختلفة فإنّهم يصبحون بلا ذاكرة تاريخيّة أو تكون ذاكرتهم ضعيفةً أو موجهةً ومتحيّزة. لذا فإنّ الإقبال الكبير على الدراما الرقميّة التاريخيّة - السياسيّة يصبح له ما يبرّره، إذ يُنشِّط الذاكرة الجماعيّة للمواطنين على اختلافهم، فيدركون ما يجهلون، ويصوّبون ما قد زُرِع بالخطأ قسرًا لسبب أو لآخر، كما يعصمهم من العيش بلا ذاكرة أو أسرى ذاكرة "متخيّلة" بسبب الجهل، أو ذاكرة معدّة بطريقة "المونتاج السينمائي" انطلاقًا من التحيّزات والتوظيفات السياسيّة والفكريّة والدينيّة.

وبعد، إذا كنّا بصدد النّضال من أجل أن يصبح "المخيال العروبي مكتملًا ومستدامًا" (كما أشرنا في مقالٍ مبكرٍ لنا في هذه المنصّة) فعلينا التأسيس لذاكرة تاريخيّة - سياسيّة غير متحيّزة أو مبتسرة أو موجّهة أو مُتشظّية ينعقد حولها إجماعٌ قومي وليس تمزيق التاريخ وإعادة تركيبه كيفما يراه كل طرف في المنظومة العربيّة.

وإذا كانت مناهج التاريخ الرسميّة لم تتمكن من إحداث هذا الإجماع والالتفاف القومي من ناحية، وإذا كان التأريخ الاستشراقي قد شوّه وعتّم على نقاط الضّوء في تاريخنا، فإنّ الطريق ممهدٌ أمام الجماعة الإبداعيّة والثقافيّة والمدنيّة لإنتاج إبداعات دراميّة رقميّة تاريخيّة - سياسية تُجسر بين نقاط الضوء في الماضي كي تُنير للأجيال الطريق من أجل المستقبل الأفضل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن