"الحرب لم تبدأ بعد" جملة كررها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرات، وكأنه كان يترقب ويستعد لما هو أشد من "العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا"، والتي لم يسمها حربا منذ أن بدأت، فماذا ستكون الحرب التي يتوقعها بوتين؟ إنها الحرب المباشرة بين روسيا وحلف الناتو، والتي قال إنها أصبحت وشيكة، بعد أن سمحت الولايات المتحدة وبريطانيا باستخدام أوكرانيا الصواريخ بعيدة المدى في ضرب العمق الروسي، بينما فرنسا وألمانيا مترددتان في اتخاذ القرار.
والسؤال المهم يدور حول توقيت هذا التصعيد، وهل يتعلق بقدوم الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض بعد أقل من شهرين؟ أم أن الأمر يتعلق بالتقدم السريع للقوات الروسية في أوكرانيا؟ المرجح أن الأمر لا يتعلق بنهاية ولاية بايدن وقدوم ترامب، فلا يمكن أن يكون ترامب بعيدا عن هذا القرار، لأنه الرئيس الفائز في الانتخابات يتلقى التقارير حول القرارات المهمة، التي تنبغي مراجعته بشأنها، وهذا يعني أن السبب كان محاولة عرقلة تقدم القوات الروسية، ومنعها من تحقيق انتصار حاسم وسريع.
فما حققته روسيا من تقدم خلال الشهرين الأخيرين يتجاوز ما تحقق من تقدم منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، فالقوات الروسية اخترقت خطوط الدفاع الرئيسية الأشد تحصينا، وسيطرت على أهم القلاع، وما تبقى من المدن الأوكرانية دخلتها القوات الروسية جزئيا مثل تشاسيف يار وتورسك وكوبيانسك وكوراخوفو، بعد أن سيطرت على أفيديفكا وأوغليدار وسليدوفا، وتحاصر عددا كبيرا من البلدات والألوية، مما ينذر بانهيار قريب وواسع للقوات الأوكرانية، ويصبح الطريق مفتوحا أمام روسيا لتحقيق المزيد من التقدم السهل والسريع، ويمكنها السيطرة على مقاطعات مهمة مثل أوديسا وخاركيف.
وكانت القوات الروسية قد اقتربت من مدينة بكروفسك الإستراتيجية، المحطة الرئيسية لإمدادات القوات الأوكرانية في مقاطعة دونيسك، فجرى سحب قوات أوكرانية كبيرة من باقي محاور القتال لمنع سقوط بكروفسك، واستغلت القوات الروسية الفرصة، وتقدمت في تلك المحاور، وتركت بكروفسك التي فقدت أهميتها بعد أن أصبحت الطرق مقطوعة منها وإليها، بسقوطها ناريا، ولم يعد بإمكانها أن تكون محطة الإمداد الرئيسية، وهذه واحدة من أخطاء التكتيكات العسكرية في الحرب الأوكرانية، والتي كان أهمها اقتحام القوات الأوكرانية لمقاطعة كورسك الروسية، وتوسيع الجبهات، بما فتح ثغرات كبيرة في الدفاعات الأوكرانية، لتخسر القوات الأوكرانية مواقع مهمة، دون أن تحقق تقدما مهما في مقاطعة كورسك الروسية.
وتؤكد التقارير الغربية أن أوضاع القوات الأوكرانية بالغة السوء، وخسرت الكثير من قدراتها في الجنود والعتاد، وفشلت في تجنيد أعداد كبيرة تعوض خسائرها، وانتشر الهروب من التجنيد، بل الهروب من جبهات القتال. هنا أدرك حلف الناتو أنه أمام خسارة كبيرة، ستضر بمكانته، وسيكون لها أثمانها وتداعياتها على موازين القوى العالمية، وانتقد الرئيس الأوكراني زيلينسكي الدول الحليفة، واتهمها بالتخاذل وعدم تنفيذ وعودها، رغم كل ما حصل عليه من أسلحة وأموال ودعم لوجستي، وكأنه كان على يقين بأن حلف الناتو لن يتركه يخسر الحرب، فالأمر تخطى أوكرانيا، وأصبح صراعا على مصير الغرب الجماعي "أوروبا والولايات المتحدة"، لهذا كانت المخاطرة الأمريكية والبريطانية بالسماح باستخدام صواريخهما في ضرب العمق الروسي.
ويبدو أن بوتين لم يتفاجأ بالخطوة، وأنه استعد لها، بل كان يعنيها بقوله "إن الحرب لم تبدأ بعد"، لهذا أعد صواريخه النووية، ثم أطلق ستة صواريخ باليستية فرط صوتية، استهدفت مقاطعة دنيبرو الأوكرانية، التي لا تبعد عن مدى مدفعية قواته، فلماذا استخدم الصواريخ الجديدة "أوريشنيك" في ضرب مدينة في متناول مدفعيته؟ لقد كانت الصواريخ الجديدة متوسطة المدى ردا على الصواريخ الستة التي استهدفت العمق الروسي.
وتأكيدا للولايات المتحدة أنها ترد على قرار انسحابها من معاهدة عدم نشر الصواريخ المتوسطة والقصيرة، وطلقة تحذير جدية إلى حلف الناتو، خاصة بريطانيا وبولندا والولايات المتحدة تؤكد أنه مستعد للحرب الشاملة مع حلف الناتو، وأن كوريا الشمالية جاهزة بإرسال مئات آلاف الجنود، ينضمون إلى الجيش الروسي الذي قرر بوتين رفع عدده إلى مليون ونصف المليون مقاتل، مع أسلحة بمقدورها التفوق على الأسلحة الغربية، وبهذا وضع بوتين الغرب بين خيارين، إما الانتقال إلى الحرب العالمية المباشرة، وإما التوقف عن إمداد أوكرانيا بأسلحة إستراتيجية، يوجهها إلى أهدافها بأقماره الصناعية إلى العمق الروسي. وبين الخيارين ينتظر البشر قرار البقاء أو الفناء.
(الأهرام المصرية)