الأجواء الايجابية التي رافقت الايام الماضية والتسريبات الاسرائيليّة عن تقدم مُحرز في اتفاق وقف النار مع لبنان، الذي وافق على المقترح الاميركي مع بعض التعديلات، عاكستها التطورات الميدانية الخطيرة، من تصعيد وتكثيف الغارات وتوسيع إطار العمليات البريّة حيث تتضارب المعلومات الآتية من جبهات القتال المتعددة، ولكن جميعها تؤكد أن معارك ضارية تجري بين القوات الاسرائيليّة وعناصر "حزب الله".
وكما في غزّة، تعمّد رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو "تفخيخ" المفاوضات وإجهاضها بهدف كسب المزيد من الوقت لتوسيع نطاق العمليات العسكرية بغية فرض أمر واقع يُحسن من أوراقه التفاوضية ويُجبر لبنان على الرضوخ لشروطه، على قاعدة ما كان مرفوضاً سابقاً سيتم الموافقة عليه تحت ضغط الغارات المكثفة على بيروت وضاحيتها والتقدم الميداني لقواته التي، وفق الخرائط، تستخدم تكتيكات حربية جديدة ستمكنها - بحال استمرت - في تشكيل شريط حدودي او منطقة عازلة تضمن أمنها وأمن مستوطناتها الشمالية.
وقد لاقى نتنياهو قرار المحكمة الجنائية الدولية التي أمرت باعتقاله بوصفه "مجرم حرب"، بقصف مروّع على العاصمة بيروت فجر يوم السبت، حيث استهدفت 5 صواريخ مضادّة للتحصينات منطقة البسطة الفوقا المكتظة بالسكان والنازحين، من دون سابق انذار، ما أدى الى اضرار جسيمة وخلف، في حصيلة أولية، 20 شهيداً وأكثر من 70 مصاباً في وقت تواصل فيه الفرق الانقاذية عملها وسط صعوبة بالوصول الى العالقين تحت الردم.
ليلة عنيفة عاشتها بيروت، خلال الاستهداف الرابع في غضون أقل من أسبوع لمناطقها وشوارعها التي كانت تُصنف "آمنة"، ما يكشف عن مخطط نتنياهو بزيادة الضغوط على "حزب الله" وقياداته، خاصة ان الاعلام العبري سارع الى الربط بين هول الإنفجار القوي وعملية اغتيال لأحد قياديي الحزب، حيث ضجت وسائل اعلامه بأسماء عديدة دون أن تتضح المعطيات بعد، ولم يصدر لغايته أي بيان رسمي إسرائيلي عن الشخصية المستهدفة. هذا ونفى "حزب الله" على لسان النائب أمين شري أن يكون هناك أي شخصية قيادية في المكان المستهدف.
ووسط هذ التضارب، تبرز حقيقة واضحة وهي أن وتيرة العنف ستتصاعد في الأيام المقبلة وأن لا خطوط حمراء أمام نتنياهو وحكومته اليمنية المتطرفة حتى القضاء على قدرات "حزب الله" ومنع إعادة تسلحه، وهو ما عكسته تصريحات المسؤولين الاسرائيليين، حيث أشار وزير الخارجية جدعون ساعر، الى "ضرب 70% من قدرات الحزب الصاروخية"، مؤكداً أن "تطبيق الاتفاق مع لبنان أهم من الاتفاق بحد ذاته".
هذا التصريح تزامن مع زيارة قام بها قائد القيادة المركزية للجيش الأميركي مايكل إريك كوريلا إلى إسرائيل، اذ بحث مع رئيس الأركان هرتسي هاليفي القضايا الأمنية الاستراتيجية مع التركيز على الجبهة اللبنانية. والأمر عينه، كان مدار نقاش، خلال محادثة هاتفية جرت بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ونظيره الإسرائيلي يسرائيل كاتس، حيث شدد الجانب الأميركي "على أهمية ضمان سلامة وأمن القوات المسلحة اللبنانية وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان "اليونيفيل".
من جهته، أكد المتحدث باسم وزارة الدفاع الإسرائيلية أن "تل أبيب ستواصل العمل بحزم ضد "حزب الله"، مشيراً إلى أن "الجيش سيتخذ جميع الإجراءات اللازمة لضمان أمن الحدود الشمالية وتعزيز الاستقرار في المنطقة". ويأتي ذلك توازياً مع التعليق الذي صدر عن مستشار المرشد الإيراني علي لاريجاني، الذي قال "إننا نسمع أخباراً جيدة وستحل المشكلات في المنطقة"، مضيفاً أنّ "إيران مستعدة للتوصل إلى اتفاق مع واشنطن بشأن البرنامج النووي وعدم إنتاج أسلحة نووية".
وبينما تسعى ايران بكل ما أوتيت من جهد الى التقارب مع الادارة الأميركية الجديدة وسط رسائل ودية تحاول ارسالها بشأن اتفاقها النووي، ستوظف، وفق تحليلات، ما يجري في لبنان بإطار أي جولة تفاوضية خاصة أن طهران لديها نفوذ في عدد من بلدان الشرق الاوسط، التي تشهد اليوم على اعتداءات اسرائيليّة وأبرزها في سوريا. يُذكر أن المناوئين لـ"حزب الله" وسياسته المتبعة يرفضون استمرار زج لبنان بأتون المشاريع الايرانية خدمة لمصالحها التوسعية وبرنامجها النووي.
وبالعودة الى المستجدات اللبنانية، استكمل الاحتلال غاراته المكثفة على الضاحية الجنوبية، كما لم تهدأ وتيرة عنفه بعدما استهدف، صباح أمس، صيادين عند شاطئ صور الجنوبي، بمسيرّة ما أدى إلى استشهاد شخصين. وكان للبقاع، وتحديداً بعلبك، حصة وازنة من هذا القصف الهمجي حيث تركزت الغارات على 7 بلدات وحصدت، بحسب وزارة الصحة اللبنانية، 24 شهيداً وأصابت 45 آخرين، في حصيلة غير نهائية.
هذه المجازر والاعتداءات المتنقلة تزامنت مع قيام جيش الاحتلال بعملية نسف وتفجير في محيط معتقل الخيام وصل عصفها إلى البلدات الجنوبية المجاورة حيث تشهد المنطقة مواجهات عنيفة. كما تشهد، في الإطار نفسه، منطقتي البياضة ووادي حامول، اشتباكات محتدمة بظل محاولات العدو التوغل إلى المنطقة للالتفاف على بلدة الناقورة وعزلها والتمركز في منطقة البياضة الاستراتيجية، لكونها تكشف الساحل الممتد بين الناقورة وصور.
وضمن سياسة تقطيع الأوصال مع سوريا كنوع من الحصار البرّي، ذكرت "وكالة الأنباء السورية"، أن الطائرات الإسرائيليّة شنّت هجوماً استهدف معبر جوسية بمنطقة القصير في ريف حمص عند الحدود السورية - اللبنانية. في المقابل، نقلت شبكة "إن بي سي نيوز" الأميركية، عن مسؤول كبير في البنتاغون، أن غارة إسرائيلية نُفذت في منطقة السيدة زينب، جنوب العاصمة السورية، قتلت القيادي الكبير في "حزب الله" علي موسى دقدوق، المسؤول عن "ملف الجولان" في الحزب، الذي ساعد في التخطيط لإحدى أكثر الهجمات جرأة وتطوراً على القوات الأميركية في العراق، عام 2007.
وفي ملف غزّة، يشتد القصف قرب مستشفى كمال عدوان، في بيت لاهيا، شمالي القطاع. فيما جددت وزارة الصحة الفلسطينية التنبيه من توقّف مرتقب لكافة مستشفيات القطاع عن العمل، أو تقليص خدماتها، بسبب تعمق حالة نقص الوقود، ورفض إسرائيل السماح بإدخاله.
وعن الأسرى الاسرائيليين، أعلن الناطق باسم كتائب "القسام"، أبو عبيدة، أن إحدى الرهائن قُتلت في شمال القطاع، مشيراً الى أن "حياة أسيرة أخرى ما زالت معرضة للخطر، بعد مقتل رفيقتها". وحمل نتنياهو وحكومته المسؤولية الكاملة. ورغم استمرار المظاهرات الداعية لابرام صفقة مع "حماس"، لا يبدو نتنياهو مستعجلاً لوقف الحرب بل على العكس تشير المعطيات الى أنه يخطط لبقاء طويل في غزّة وتوسيع رقعة الاستيطان في الضفة الغربية.
وضمن جولتنا الصباحية على الصحف العربية الصادرة اليوم التي خيّم على عناوينها قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق، إذ:
اعتبرت صحيفة "الجريدة" الكويتية أن المحكمة الجنائية الدولية "انتصرت للمستضعفين في غزّة الذين تخلى عنهم ضمير العالم"، موضحة أن مثل هكذا قرار يعطي بريق أمل لـ"التوّاقين إلى العدالة، والذين كادوا يصلون إلى أن البشرية قد وصلت إلى أعمق مراحل انتحار ضميرها "المستتر"، بالسكوت عن تلك الفظائع التي لن يغفرها التاريخ المتواطئ أو المؤيد أو حتى الساكت برضا عما يحدث ليل نهار، على مرأى ومسمع من الجميع".
ولم تختلف وجهة نظر صحيفة "الدستور" الأردنية التي شددت على أن هذا القرار "يُعيد الأمل والثقة في القانون الدولي ومؤسساته، وفي أهمية العدالة والمساءلة وملاحقة مجرمي الحرب"، داعية مجلس الأمن الدولي الى "تحمل مسؤولياته واتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ قراراته ذات الصلة، وفرض وقف فوري وشامل ودائم لجرائم العدوان العسكري والإبادة الجماعية التي يرتكبها ضد الشعب الفلسطيني".
من جهتها، أشارت صحيفة "عُمان" العمانية إلى أن القرار أشبه بـ "فرصة قد لا تتكرر للدول العربية والدول المدافعة عن الحق لتتحرك بشكل واضح ومعلن، للضغط على الدول المترددة في وضع قرار المحكمة موضع التنفيذ، بهدف وضع حد لإفلات قادة الكيان الصهيوني من العدالة، عبر عقود من التنكيل والقتل واستخفافهم بالقانون الدولي والشرعية الدولية فوق هذا كله".
وتناولت صحيفة "الصباح" العراقية التحديات التي قد تواجه المحكمة وقدرتها على تنفيذ مذكرات الاعتقال، "فالمحكمة لا تمتلك قوة عسكرية أو شرطة خاصة بها لتنفيذ الأوامر، وهي تعتمد بشكل كامل على تعاون الدول الأعضاء لتنفيذ قراراتها". وأضافت "إن إصدار مذكرات الاعتقال يأتي في وقت يشهد العالم صراعات عنيفة، أبرزها ما يدور في غزّة ولبنان، إضافة الى التوترات السياسية والدبلوماسية التي تسود مساحات شاسعة من الأرض".
ونوهت صحيفة "الشروق" الجزائرية بـ"القرار التاريخيّ والانتصار القانوني والسياسي للفلسطينيين المضطهدين، خاصة أنه يشكل جرعة معنوية إضافية للمقاومة التي لا تزال تخوض معارك ملحمية في شمال غزّة"، متسائلة "نتنياهو أصبح مجرم حرب، فهل تواصل الدول العربية علاقاتها مع مجرم أصبح منبوذا عالميّا؟ أم تراجع نفسها وتقطع علاقاتها معه حفظا لماء الوجه؟ وهل تنفّذ قرار الجنائية الدولية وتعتقله إذا زارها أم تفرش له السجّاد الأحمر؟".
وضمن الإطار، تحدثت صحيفة "الأهرام" المصرية عن موقف المجتمع الدولي، "خاصة الموقف الغربي المتخاذل، والفجوة الكبيرة ما بين الأقوال والأفعال". وقالت: "ظاهريا تطالب الولايات المتحدة والدول الغربية بوقف تدهور الأوضاع الإنسانية وإنهاء معاناة الفلسطينيين، بينما على أرض الواقع تستمر في حماية إسرائيل ودعمها سياسياً واقتصادياً وعسكرياُ واستخدام الفيتو في مجلس الأمن ما يعكس الازدواجية الغربية في التعامل مع الأزمة".
أما صحيفة "الراي" الكويتية، فلفتت إلى أن "طهران سلمت بمرونةٍ في التفاوض بالشأن اللبناني من دون الاستسلام لشروط نتنياهو كما هي"، لكنها رأت أن الأخير "وضع الحزب ومعه لبنان برمّته بين "فكي كماشة": إما نموذج غزّة، وإما نموذج سورية وتحديداً في الشق المتعلق بالحصول على "ضوء أخضر دائم" يتيح له حرية الحركة والتصرف في لبنان ضدّ أي تهديد وشيك أو في طور التشكُّل من الحزب".
(رصد "عروبة 22")