ما هو المعنى الذي يفترض أن يصلنا من إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على معاقبة المحكمة الجنائية الدولية لأنها تجرأت وقررت إصدار مذكرة اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت؟!
المعنى الأساسي هو أن الإدارة الأمريكية الحالية والسابقة واللاحقة ليست فقط منحازة لإسرائيل، ولكن وهذا هو الأهم أنها عنصرية واستعلائية ولا تؤمن إلا بمنطق القوة الغاشمة وأنها تحتقر فكرة المؤسسات الدولية وكل ما يمت بصلة لحقوق الإنسان. نعرف أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت الأسبوع الماضي مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وجالانت وكذلك بحق محمد الضيف القائد العام لكتائب "عز الدين القسام" بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وقالت المحكمة إن نتنياهو وجالانت متهمان باستخدام التجويع كسلاح حرب والقتل والاضطهاد وغيرها من الأفعال ضد الإنسانية. وقالت المحكمة إن قبول إسرائيل باختصاص المحكمة غير ضروري، وأن 134 دولة أعضاء في المحكمة ملزمون بتنفيذ هذا القرار في حالة دخول المتهمين إلى أراضيهم.
ووسط مشاركة أمريكية فجة في العدوان الإسرائيلى وصمت دولي وعجز عربي، كان من الأمور المبشرة أو ما يمكن تسميته ببارقة الأمل أن معظم الدول الأوروبية أكدت أنها ستنفذ القرار إذا زارها نتنياهو. وقال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل "إنه ليس بوسع الاتحاد الأوروبي التعامل بانتقائية مع قرار المحكمة، والدول الموقعة على اتفاقية روما بإنشاء المحكمة ملزمة بتنفيذ قرار المحكمة وهذا الأمر ليس اختياريا".
بوريل كان شجاعا للغاية حينما قال: "في كل مرة يختلف أحد مع سياسة حكومة إسرائيلية معينة يتم اتهامه بمعاداة السامية.. لدي الحق في انتقاد قرارات الحكومة سواء كانت لنتنياهو أو غيره، دون أن يتم اتهامي بمعاداة السامية. هذا أمر غير مقبول.. يكفي هذا". في مقابل هذا الموقف الشجاع لبوريل كانت هناك مواقف مخزية للعديد من المسئولين الأمريكيين..
الرئيس الأمريكي جو بايدن أصدر بيانا جاء فيه: أن قرار المحكمة شائن. المتحدث باسم مجلس الأمن القومى جون كيري قال إن "أمريكا ترفض القرار بشكل جوهري". ووزارة الدفاع الأمريكية قالت: "ليس لدينا تقييم قانوني حول الإجراءات الإسرائيلية في غزة، لكننا نرفض قرار المحكمة الجنائية الدولية".
السناتور الأمريكي لندسي جراهام طالب بفرض عقوبات على أي بلد من حلفاء الولايات المتحدة يساعد على اعتقال نتنياهو حتى لو كان كندا أو بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا، ويجب على أمريكا أن تسحق اقتصادات هذه الدول. أما قمة الانحياز الأمريكي فكان تهديد عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكى بتفعيل قانون أعضاء الخدمة الأمريكية أو ما يعرف بقانون "غزو لاهاي" الصادر عن الكونجرس عام 2002، وهو خاص أساسا بحماية أعضاء الخدمة الأمريكية من التعرض للمحاكمة أمام الجنائية الدولية.
إحدى مواد القانون تسمح للرئيس الأمريكي باستخدام كل الوسائل الضرورية لإطلاق سراح أي من أعضاء الخدمة الأمريكية سواء كان محتجزا أو معتقلا من قبل المحكمة الجنائية العليا أو بالنيابة عنها أو بأمر منها في مقرها في مدينة لاهاي الهولندية. وبالتالي صارت المادة تسمى بقانون غزو لاهاي. ولا يقتصر القانون فقط على حماية أعضاء الحكومة الأمريكية بل المتحالفين معها مثل نتنياهو.
ويتضمن القانون أيضا منع التعامل مع المحكمة أو أي حكومة تساعدها في القبض على أمريكيين أو حلفاء لأمريكا. الطريف أو المثير أو المدهش أن الولايات المتحدة رحبت سابقا بقرارات اعتقال صادرة من المحكمة الجنائية الدولية، ولكنها كانت ضد شخصيات معارضة للولايات المتحدة، أما حينما فكرت المحكمة في اعتقال نتنياهو رأينا الوجه الحقيقي للولايات المتحدة..
أظن أن مجمل ما فعلته الولايات المتحدة منذ 7 أكتوبر من العام الماضي من دعم ومشاركة كاملة لإسرائيل في عدوانها ضد فلسطين ولبنان، هو درس نهائي لأي شخص مخدوع فيما يسمى بالديمقراطية والإنسانية والعدالة الأمريكية.
وضح لنا جميعا أن الإدارة الأمريكية والكونجرس وسائر الوكالات والهيئات تدعم هذا العدوان دعما كاملا وصريحا، ورأينا الكونجرس وهو المجلس المنتخب من عموم الشعب الأمريكي يستقبل نتنياهو استقبال الأبطال الفاتحين.
طبعا هناك قطاع من الشعب الأمريكي مثل طلاب الجامعات ومثقفين وفنانين وتيار تقدمي في الحزب الديمقراطي، كان لهم موقف مهم ومحترم وأخلاقي من العدوان، لكنه للأسف لايزال ضعيفا وغير قادر على التأثير في الموقف المنحاز للعدوان والإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين ولبنان. السؤال: هل يستفيق المخدوعون في منطقتنا والعالم بالديموقراطية والعدالة وحقوق الانسان على الطريقة الأمريكية؟!
(الشروق المصرية)