تحقيق التقدم في عالم سمته التنافس والصراع والتشابك ليس مسألة حظ، بل هو نتاج طبيعي لتضافر الجهود، وتعبئة الإمكانات المتاحة، واعتماد مجموعة من السياسات، على رأسها الاستثمار في مجال التعليم، كبوابة لتطوير العنصر البشري والمراهنة على كفاءاته في تحقيق تنمية مستدامة محورها الإنسان.
وعلاوة على الفرص التي يوفرها التعليم المتطور في عقلنة السياسات، وتحقيق الرفاه للمواطن، وإرساء قيم المواطنة التي تتوارى خلفها الانتماءات الضيقة لصالح انتماءات أوسع تدعم التعايش واحترام حقوق الإنسان، فهو مدخل استراتيجي لتعزيز الجاهزية لمواجهة مختلف المخاطر والتحديات الراهنة والمستقبلية.
لقد تنبهت الكثير من الدول إلى أهمية الاستثمار في هذا المجال الحيوي، فاستثمرت إمكانيات مهمة في هذا الخصوص، وسنّت تشريعات تعطي للعلم والتربية والمعرفة والفكر المكانة التي تليق بها داخل المجتمع، واعتمدت سياسات منفتحة على مخرجات الجامعات ومراكز البحث، بما أعطى للسياسات التي يعتمدها صانعو القرار عمقاً وقوة في مواجهة مختلف الإشكالات.
أحدث تطور وانتشار التكنولوجيا الحديثة ثورة حقيقية طالت عدداً من المجالات على رأسها التعليم، حيث تضاربت المواقف بشأن الانعكاسات التي سيحدثها هذا التطور المذهل، بين من يرى فيه ضربة قوية للمناهج التعليمية التقليدية ومخرجاتها، بالنظر إلى ما أفرزه الذكاء الاصطناعي من تحديات وفرص جديدة في هذا الصدد، ومن يرى في الأمر فرصة لتطوير منظومة التعليم وتوظيف هذه التكنولوجيا في العملية التعليمية، بما يتيح تحقيق النجاعة ويوسع دائرة الولوج إلى التعليم بسبل ميسرة ومرنة.
وبغض النظر عن هذه المواقف المتضاربة، فإن هناك الكثير من الأسئلة المقلقة التي تطرح بشكل ملح بشأن مستقبل منظومة التعليم عبر العالم في ظل هذه الطفرة التكنولوجية المتسارعة التي عبرت عن الكثير من الاختلالات التي باتت تتهدد البرامج التعليمية والمناهج المعتمدة والمتأزمة أصلاً في عدد من بلدان العالم في هذا الخصوص.
إن التحديات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي أصبحت تفرض مراجعة البرامج والسياسات التعليمية من حيث إرساء تكوين يستوعب التحولات المجتمعية التي أفرزها التطور الرقمي بشكل عام، والذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص، وقادر أيضاً على استثمار التطورات الرقمية في ترسيخ تعليم مواكب ومنفتح على المستقبل، بخاصة على مستوى تأهيل النشء ليكون مستعداً لاقتحام سوق الشغل الذي أصبح يتطور بشكل سريع.
فنتيجة لهذه التطورات التكنولوجية ستختفي الكثير من الوظائف والمهن مستقبلاً، فيما ستبرز أخرى جديدة، كما أن ركوب قطار التكنولوجيا سيسمح حتماً بتعزيز التنافسية في عالم متغير. يعد التعليم من ضمن الروافد الكفيلة بصنع المستقبل والاطمئنان إلى ما تحدثه التكنولوجيا الحديثة من تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وقيمية، فهو الكفيل بإعداد جيل مؤهل ومحصن وعلى قدر كبير من الكفاءة، التي تسمح له بكسب المعارك الاستراتيجية، واقتحام عدد من الوظائف والمهام العابرة للحدود والتخصصات.
من المؤكد أن توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل عام يحتمل وجهين: الأول إيجابي وبناء على مستوى استثماره في ما يخدم المجتمعات ويحقق التنمية، ومواجهة المخاطر التي تتهدد الإنسان، والثاني سلبي، بالنظر إلى الإشكالات القانونية والأخلاقية التي يمكن أن تنجم عن استخداماته العشوائية.
وفي مجال التعليم، يفتح الذكاء الاصطناعي فرصاً كبيرة لحوكمة هذا القطاع الحيوي وضمان جودته، بصورة يمكن أن تعزز الحق في التعليم لعدد من الفئات المجتمعية، وتضيّق الخناق على استخداماته في مجالات تمس بمصداقية الرسالة النبيلة التي تستأثر بها منظومة التعليم داخل المجتمع، بخاصة على مستوى تمييع هذه العملية وفتح مجالات للتحايل والتدليس والمس بأصول وقواعد التعليم والبحث العلمي وأخلاقياتهما، وذلك من خلال تبني مجموعة من التدابير والإجراءات، على مستوى توطين التكنولوجيا والاستفادة من مختلف الإمكانيات التي تزخر بها في مجالات الطب والتعليم وتدبير المخاطر، وتطوير البنى التحتية، وإحداث جامعات ومعاهد متخصصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والروبوت والأمن الرقمي وكل ما يتصل بشؤون الحواسيب.
علاوة على سن تشريعات مواكبة تعزز الأمن الرقمي والثقة في المعاملات المتصلة بهذا الخصوص، وبلورة سياسات عمومية تسمح بإعداد وتدريب الأطر التقنية والإدارية والتربوية ذات الصلة بالمنظومة التعليمية وتعزيز قدراتها في ما يتعلق بالولوج إلى هذه التقنيات وتطبيقاتها الذكية.
يوفر الذكاء الاصطناعي فرصاً كبيرة أمام الدول للرقي بمستوى هذه المنظومة وجعلها أكثر نجاعة وأكثر مواكبة لتطورات المجتمعات، بخاصة على مستوى توظيف الروبوتات، وتيسير العمل الإداري، وتطوير المناهج التعليمية، وجمع المعلومات وتحليلها، والتعلم بالمحاكاة، والاستئناس بعدد من التقنيات كالفيديو والرسوم البيانية في هذا الصدد، بالإضافة إلى تطوير وتجويد عملية التعلم عن بعد.
إن حسن توظيف التكنولوجيا بشكل عام والذكاء الاصطناعي على طريق بناء تعليم يدعم الابتكار والإبداع والانفتاح، بما يساهم في تحقيق التنمية المستدامة، يبدأ بتبنّي استراتيجيات تعليمية منفتحة على المستقبل بتحدياته وإشكالاته، وإحداث بنى تحتية ومناهج تعليمية قادرة على استيعاب هذه المتغيرات، مع الانفتاح على التجارب العالمية الرائدة في هذا الخصوص، ونهج مقاربات تشاركية عبر تكثيف الجهود بين مختلف الفاعلين في القطاعين العام والخاص والانخراط في عقد شراكات تعاون تسمح بالاستفادة من تجارب مؤسسات تعليمية دولية متطورة.
(الخليج الإماراتية)