مرحلة جديدة يدخلها لبنان بعد إبرام تسوية لوقف اطلاق النار وعودة الهدوء الى الجبهة الجنوبية وبقية المناطق التي تشهد على دمارٍ مخيفٍ خلفه العدوان الاسرائيلي. مشهدان طبعا اليوم الأول لسريان الاتفاق، العودة التدريجية للنازحين إلى المدن والبلدات التي فروا منا، فيما تمثل الثاني بعديد آليات الجيش اللبناني التي بدأت بتعزيز انتشارها جنوب نهر الليطاني وبسْط سلطة الدولة بالتنسيق مع قوات "اليونيفيل" استنادًا إلى التزام الحكومة بتنفيذ القرار 1701.
العودة الطبيعية للسكان ورمزيتها التي تؤكد ارتباط الانسان بأرضه وجذوره، ستكون محط تركيز في الأيام المقبلة بعد انتهاء مراسم العودة والحديث الجدي عن إعادة الإعمار، خصوصاً أن مشاهد الركام والخراب تؤكد حجم الخسائر الفادحة التي مُني بها الاقتصاد اللبناني وسط أحاديث بدأت تظهر الى العلن عن ضرورة إطلاق باكورة عملية الاعمار والحاجة إلى تعاون عربي ودولي سيكون مرتبطاً بآليات وشروط تطبيقية وتنفيذية، وعلى رأسها ضمان إرساء الاستقرار الطويل الأمد.
ظروف ومؤشرات لا تشبه العام 2006 بعد انتهاء حرب تموز، حتى وإن حاول "حزب الله" الإيحاء بالعكس، وهو الذي أعلن في بيانه الأول بعد سريان وقف إطلاق النار "النصر" مع تركيزه على خسائر العدو الاسرائيلي منذ بدء عملية "إسناد غزّة" في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث لفت إلى أن عدد عمليّاته ناهز الـ 4637 عملية عسكرية (مُعلن عنها) خلال 417 يوماً، بمعدل 11 عملية يومياً. يُذكر أن الحزب يُحضر لإقامة تشييع "شعبي" لأمينه العام السابق حسن نصر الله، الذي قُتل في غارة إسرائيليّة على الضاحية الجنوبية، أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي.
ولاقى الاتفاق المُبرم سلسلة مواقف مرحبة عربياً ودولياً والتي أجمعت على ضرورة التزام الطرفين بتطبيقه تطبيقاً كاملاً. فيما أشار الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، وفق ما نقلت عنه وسائل اعلامية، الى "ضرورة أن يقوم الجيش اللبناني بمهامه والتأكد من انسحاب "حزب الله" من المناطق التي نص عليها الاتفاق، مع أهمية التعلم من بعض أخطاء عام 2006 لتنفيذه بشكل كامل". وأوضح أن فريقاً أميركياً سيصل إلى المنطقة الليلة أو غدًا لإجراء مشاورات حول تنفيذ الاتفاق.
بدورها، رحبت قوات "اليونيفيل" بإعلان وقف الأعمال العدائية قائلة: "سنواصل أداء المهام المنوطة بنا، وقد بدأنا بالفعل في تعديل عملياتنا بما يتلاءم مع الوضع الجديد"، داعية كافة الأطراف لتنفيذ القرار 1701 بشكل كامل، كما ذكرت بأن المدنيين على جانبي الخط الأزرق قد عانوا كثيراً بسبب النزاع.
تزامناً، استمرت التهديدات الاسرائيليّة لأهالي القرى الجنويية لثنيهم عن العودة، حيث صرح رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي، بأن "قواتنا لا تزال في الميدان وسوف تواجه من يعود إلى القرى بالردع وبالنار"، مشيرًا إلى أنه "إذا لم ينفذ الاتفاق، فإننا مستعدون وحاسمون لفرض واقع جديد مختلف لسكان الشمال". هذا وأفادت "القناة 13" الإسرائيليّة بأن الجيش لا يخطط حاليًا لتخفيض عدد قواته في لبنان وأنه يواصل البحث عن الوسائل القتالية في المنطقة الجنوبية ويستمر في تنفيذ عمليات هندسية.
وفي سياق متصل، صادق الرئيس الأميركي جو بايدن على بيع أسلحة إلى إسرائيل بقيمة 680 مليون دولار، وهي شحنة من الأسلحة الدقيقة التي ذكرها رئيس الحكومة الإسرائيليّة، بنيامين نتنياهو، كأحد أسباب التي دفعت إسرائيل للموافقة على اتفاق وقف النار مع لبنان، بحسب ما أوردت صحيفة "فاينانشال تايمز". ويأتي ذلك بعد ساعات من دخول الاتفاق حيّز التنفيذ، ما يكشف عن تفاهمات أميركية - إسرائيليّة "غير معلنة"، علماً بأن نتنياهو كان قد ألمح بأن القيود على توريد الأسلحة كانت ضمن أولويات إسرائيل عند الموافقة.
الى ذلك، قررت إسرائيل تقديم استئناف ضد القرار الصادر عن المحكمة الجنائيّة الدوليّة بإصدار مذكرات اعتقال ضد نتنياهو ووزير الدفاع السابق، يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانيّة وجرائم حرب في غزّة. في حين قال أحد الوزراء في الحكومة لصحيفة "إسرائيل اليوم" إن تل أبيب كانت سترفض مشاركة باريس دون التنازل عن الإلتزام بأوامر الاعتقال.
وألمحت الصحيفة ووسائل إعلام إسرائيليّة أخرى إلى أن موافقة نتنياهو على التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع لبنان كان جزءاً من تفاهمات بينه وبين دول غربية تتعلق بأوامر الاعتقال من المحكمة الجنائيّة الدوليّة. وعليه، فإن تفاهمات علنية وآخرى سرية كانت وراء تسريع وتيرة الاتفاق مع لبنان فيما يبدو أن ملف غزّة سيشهد في الأيام القليلة المقبلة تحركات مماثلة بعد تكثف الدعوات الدولية لارساء تسوية.
وفي هذا الإطار، أوضح الرئيس بايدن أن إدارته "ستبذل في الأيام المقبلة جهدا آخر مع تركيا ومصر وقطر وإسرائيل للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة"، وأضاف "نعمل للتوصل لاتفاق يضمن إطلاق سراح الرهائن وإنهاء الحرب دون وجود "حماس" في السلطة". وكانت الحركة أبلغت الوسطاء المعنيين أنها جاهزة لصفقة جادة لتبادل الأسرى، "إذا التزم بها الاحتلال الذي يعطَل ويتهرب من الوصول لاتفاق وقف حرب الإبادة على القطاع"، وفق ما جاء على لسان أحد مسؤوليها.
وبحسب التقرير الأخير الصادر عن وزارة الصحة الفلسطينيّة، فإن الحرب المستمرة على قطاع غزّة أدت إلى ارتكاب قوات الاحتلال الإسرائيلي 7 آلاف و160 مجزرة بحق العائلات في القطاع، حتى مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر الحالي.
وهيمن على الصحف العربية الصادرة اليوم الملف اللبناني بعد اتفاق التسوية، حيث تصدرت التحليلات والمقالات وأبرز ما جاء فيها:
شددت صحيفة "عكاظ" السعودية على أنه "إذا كان لبنان يريد فعلاً نهاية لعذاباته فعليه أولاً إصلاح البيت من الداخل، لأنه لن يكون بمأمن من المفاجآت إذا لم يبدأ بهذه الخطوة الأساسية". وقالت: "فكرة أن لبنان في رخائه وشدته ليس سوى غنيمة لزعامات محددة فكرة رديئة وخطيرة جداً، يجب أن تُستبدل بفكرة الدولة الوطنية والجيش الوطني، والولاءات يجب أن تكون للوطن والوطن فقط، وما عدا ذلك فإن الأوضاع ستستمر هشة والأرض رخوة والجو ملوثاً، ولبنان من أزمة إلى أزمة".
من جهتها، لفتت صحيفة "الخليج" الإماراتية إلى أن "الاتفاق كان بمثابة خشبة خلاص لكل الأطراف، خاصة أن كلاً من إسرائيل ولبنان كانا بحاجة إلى وقف إطلاق النار". وخلصت إلى أن "المهم هو صمود الإتفاق، وأن لا يبقى مجرد هدنة لـ 60 يوماً، وأن يبدأ الجيش اللبناني انتشاره على الحدود اللبنانية لتوفير الطمأنينة والأمن للمواطن، وأن تلتزم إسرائيل بما تعهدت به وعدم التذرع بحجج لانتهاكه".
ورأت صحيفة "الراي" الكويتية أن لبنان أمام خيارين "إما يسير مع الاتفاق "وفق المرسوم" خصوصاً لجهة انتشار الجيش اللبناني وتفكيك منشآت "حزب الله" وإما تنهار الهدنة وتكون "استراحة بين عاصفتين"، بحال لم يُظهر لبنان جدية في الالتزام بموجبات القرار 1701 مع ضرورة إحياء مسار انتخاب رئيس للجمهورية كـ"مكّمل سياسي" مضمَر للاتفاق".
ومن وجهة نظر صحيفة "القدس العربي"، فإن "جهات عديدة نافذة ساهمت، كل لأسبابه الخاصة، في الوصول إلى الصيغة المعتمدة لوقف النار، ومنها إيران، التي تتحضر لاستيعاب الاحتمالات التي يمكن أن يفتحها حكم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، وفرنسا، التي عادت، بعد محاولة إسرائيلية لوضع "فيتو" عليها، للتأكيد على دورها التاريخي القديم في لبنان"، مشيرة إلى "أنها اضطرّت (أي فرنسا)، في سبيل ذلك، لإعلان "حصانة" نتنياهو من الاعتقال على أراضيها بعد صدور مذكرة اعتقال المحكمة الجنائية الدولية ضده".
أما صحيفة "الأهرام" المصرية، فاعتبرت أنه "بعد التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل ولبنان، تزداد الآمال في أن يكون ذلك بداية لتهدئة شاملة في المنطقة بكاملها، بما في ذلك إيقاف المأساة التي يتعرض لها أهلنا في قطاع غزّة". وأضافت: "إن الاعتداءات الإسرائيليّة لم تسفر إلا عن الخسائر على طول الخط، سواء للأبرياء في غزّة ولبنان، أو لمصالح الدول الاقليمية بالمنطقة، أو للمصالح الأمريكية والأوروبية، بل وحتى لإسرائيل نفسها، وقد آن الأوان لوقف هذا الجنون"، على حدّ قولها.
وأكدت صحيفة "الوطن" القطرية أنه "سواء في لبنان أو قطاع غزّة أو الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإن الفظائع الإسرائيليّة ماثلة للعيان، وحجم التدمير الهائل يعكس الطبيعة الإجرامية لهذه الحرب"، داعية إلى ضرورة مواصلة المجتمع الدولي "جهوده وضغوطه من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار في القطاع، حيث الكارثة غير مسبوقة على الإطلاق، وإذا كان الاتفاق حول لبنان قد حظي بكل هذا الترحيب العالمي، فإن الأمل معقود على اتفاق مماثل يضع حداً لحرب غزّة".
بدورها، تطرقت صحيفة "الدستور" الأردنية الى "رفض الأردن ومصر أي مخططات مشبوهة لتصفية القضية الفلسطينية"، مطالبة "بقية الأطراف العربية الفاعلة التي تداعت في الرياض بالقمة العربية والإسلامية ذات المخرجات المهمة إسناد الجهد الرامي إلى التوصل لتهدئة شاملة بالمنطقة ومنع توسع دائرة العنف، والعمل على إنجاح مؤتمر القاهرة الوزاري لدعم الاستجابة الإنسانية في غزّة الذي سيعقد في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر المقبل".
(رصد "عروبة 22")