حرّكت تسوية وقف اطلاق النار في لبنان ملف غزّة المُجمد منذ ما قبل الانتخابات الرئاسيّة الأميركية بعد تعطيل اسرائيل بشخص رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو كل جهود التسويات وعرقلة أي اتفاقيات، فيما المنطقة تعيش على صفيحٍ ساخنٍ وسط مخاوف حقيقية من أن تكون سوريا هي المحطة الثانية خاصة بعد تهديدات نتنياهو لرئيسها بشار الأسد في حال استمرار تدفق الأسلحة من ايران الى "حزب الله".
ورغم انتهاج سوريا "الحياد" بهذا الملف الا أنها تُعتبر خط إمداد رئيسي للأسلحة الايرانية الى جانب العراق، الذي سعى الى عدم جرّ بلاده لأتون الحرب رغم تفلت بعض الفصائل المسلحة واستهدافها تل أبيب من فترة لآخرى. الا أن اللافت جاء بخلاف كل التوقعات من الداخل السوري حيث استطاعت فصائل سورية معارضة خلال يومين من معركة "ردع العدوان"، من تحقيق تقدم سريع على حساب قوات النظام السوري في ريف حلب الغربي، وتمكنت من الاقتراب من مدينة حلب الاستراتيجية.
وإذ أكدت وكالة "مهر" الإيرانية مقتل "أحد كبار" المستشارين الإيرانيين في سوريا، ويدعى العميد كيومرث بورهاشمي، في هجوم الفصائل، حذر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي من أن "أي تأخير في مواجهة تحركات الفصائل سيدخل المنطقة في جولة جديدة من انعدام الاستقرار"، واضعاً ما يحدث كـ"جزء من مخطط أميركي - إسرائيلي لتقويض الأمن بالمنطقة"، حسب وصفه.
وبلغت مساحة السيطرة الجديدة للفصائل أكثر من 250 كيلومتراً مربعاً، بينما وصل عدد المواقع التي تمت السيطرة عليها نحو 40 موقعاً، بينها تلال ذات أهمية استراتيجية جنوباً وشمالاً. في وقت تبرز عدة أسباب وراء فتح المعركة في هذا التوقيت وتحقيق هذه النتائج وأهمها: الخسائر التي مُني بها "حزب الله" وايران نتيجة الضربات الاسرائيليّة المتكررة على مواقعهم في سوريا، الى جانب اضطرار الحزب لسحب عدد من عناصره نتيجة الحرب على لبنان وعدم القدرة على العودة بسبب تقطيع أوصال الحدود المشتركة بين البلدين، دون أن ننسى دور تركيا التي أبدت في عدة مراحل سابقة نيتها التفاوض مع النظام الذي يُعرقل ذلك.
هذه الأسباب وغيرها ستطفو الى سطح التحليلات خاصة أن ما سيحدث سيكون له تداعيات أيضاً على ما يجري في لبنان والعراق كما ايران. ومن البديهي القول أنه لطالما ارتبطت مصائر هذه الدول ببعضها البعض وحركتها طهران التي تملك في عواصمها سلطة ونفوذ، الا أن طبيعة المرحلة الحالية ومحاولة ايران تحريك ملف مفاوضاتها مع الغرب والاستعداد لمرحلة حكم الرئيس المُنتخب دونالد ترامب ستلقي بظلالها على سياستها المتبعة.
وبالتالي لم تحجب هذه التطورات الميدانية السورية الأنظار عن تسوية وقف اطلاق النار في لبنان والتي تبدو "هشة" وآيلة للسقوط بين لحظة وآخرى مع تعمّد الاحتلال الاسرائيلي خرق الاتفاق بحجج واهية وتحذير سكان عدد من القرى الجنوبية الحدودية من العودة. هذا الخرق الذي سيطرح عدداً كبيراً من الأسئلة في الداخل اللبناني وسيكون معه سلاح "حزب الله" ودوره محل مساءلة في المستقبل القريب، خاصة أن الأصوات الداخلية المناهضة بدأت تعلو في إطار الدعوة لحصر السلاح، كما نصت بنود الاتفاق، بيد الدولة وعبر جيشها الوطني فقط.
قضايا داخلية لبنانية ستوضع على طاولة البحث ما ينذر بمرحلة مختلفة، خاصة بظل الدور الاميركي "المتقدم" الذي ضمنه اتفاق وقف النار، ناهيك عن عودة فرنسا القوية الى الساحة اللبنانية، وقد تجلى ذلك باللقاءات التي عقدها الموفد الفرنسي جان ايف لودريان وطابعها الرئاسي، بالتزامن مع دخول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مباشرة على خط متابعة تنفيذ القرار 1701 واتفاق وقف النار والخروقات الإسرائيليّة، مع تأكيده على أولوية انتخاب رئيس للجمهورية.
ويبدو أن أولى مفاعيل التسوية تجلت بدعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى عقد جلسة في 9 كانون الثاني/ يناير 2025 لانتخاب رئيس للجمهورية. ودخل الاتحاد الأوروبي على خط الرئاسة في لبنان وأصدر بياناً قال فيه "إن على السياسيين اللبنانيين انتخاب رئيس بسرعة لبناء دولة قوية ذات سيادة بعد عامين من الفراغ".
في غضون ذلك، ترافقت الخروقات الإسرائيليّة مع إنقسامات داخلية اعتبرت أن تل أبيب لم تخرج منتصرة بعد حربها على لبنان، وذلك مع إحجام سكان مستوطنات الشمال عن العودة إلى منازلهم على عكس اللبنانيين. وقد سارع نتنياهو لطمأنة وتبديد الهواجس عبر اعلانه إن "ما يجري في لبنان ليس وقف للحرب بل وقف لإطلاق النار وقد يكون قصيرًا"، مؤكداً "منحه تعليمات صارمة للجيش الإسرائيلي بالاستعداد لحرب واسعة النطاق في حالة حدوث أي انتهاك".
ويستكمل الجيش اللبناني إعادة إنتشاره في الجنوب وتعزيز مواقعه، فيما نقلت مصادر لـ"رويترز" أنّ جدول أعمال "حزب الله" ما بعد الحرب، يتضمن "العمل على إعادة بناء هيكله التنظيمي بالكامل والتحقيق في الثغرات الأمنية"، في وقت أشارت إلى أنّ "حزب الله" قد يكون "فقد ما يصل إلى 4000 مقاتل خلال الحرب".
ومع تحرك المياه الراكدة في ملف غزّة، دعا وزير الإسكان الإسرائيلي يتسحاق غولدكنوبف إلى الاستيطان في القطاع، كرد على ما وصفه بالـ"المجزرة المروّعة" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وقرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت.
بدورها، نقلت "هيئة البث الإسرائيليّة" عن المتحدث باسم المحكمة الجنائية الدولية، فادي العبد الله، قوله "إن التهديدات السياسية الاسرائيليّة والأنباء عن فرض عقوبات أميركية على المحكمة، لن تؤثر على اتخاذها للقرار"، لافتاً إلى أن القضاة "لا يستطيعون إلغاء أوامر الاعتقال إلا بتقديم حجج وصفها بالقوية جداً". بموازاة ذلك، دعا مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في نداء وجهه إلى المجتمع الدولي، في آخر يوم له بمنصبه، إلى دعم المحكمة وقراراتها وتجنب تقويضها.
هذا ويستمر الاحتلال بشنّ غارات متواصلة على مختلف مناطق شمال القطاع، ما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى مع دخول حرب الإبادة ضد القطاع يومها الـ420. في المقابل، حذّرت منظمة الصحة العالمية من أنّ قطاع غزة، ولا سيّما شطره الشمالي، يعاني نقصاً حادّاً في الأدوية والأغذية والوقود والمأوى، مطالبة إسرائيل بالسماح بدخول مزيد من المساعدات إليه وتسهيل العمليات الإنسانية فيه.
وفي جولة على الصحف العربية الصادرة اليوم والتي تعدّدت مواضيعها وتحليلاتها الخاصة بالملفات الراهنة. وأبرز ما جاء:
أشارت صحيفة "البيان" الإماراتية، في مقال، إلى أنه "في لبنان احتفل أهل الجنوب وسكان الضاحية بالاتفاق الذي في حقيقته أبعد قوات النخبة للحزب عن القرى الحدودية، وجعل الجيش اللبناني وحده هو المتواجد في تلك المناطق، ومنع القيام بأي خرق لوقف إطلاق النار، وأعطى الحق للجنة المراقبة، وأعطى لإسرائيل الحق في معاقبة أي انتهاك لإطلاق النار". وقالت: "في لبنان يحتفلون بالنصر المبين بعد ما غابت أبسط مقاييس "النصر أو الهزيمة" المتعارف عليها في الحروب وعلم السياسة".
وتطرقت صحيفة "الجريدة" الكويتية للأوضاع في لبنان ايضاً حيث رأت أن "بري نفسه وحزب الله سيكونان أمام التحدي الكبير في مسألة انتخاب رئيس بعد أن حال تمسكهما بترشيح حليفهما الوفي سليمان فرنجية أمام انتخاب رئيس لمدة سنتين بسبب رفض القوى المسيحية الأساسية لفرنجية"، لافتة، وفق محللين، الى أن الحزب "يجد نفسه منقسماً بين الحاجة الى المكابرة لإعادة ترميم صورته التي انكسرت وبين الاعتراف بالوقائع الجديدة والدفع باتجاه مشهد سياسي جديد".
أما صحيفة "اللواء" اللبنانية، فشددت على أن "ما ينتظره اللبنانيون من "حزب لله" في هذه الفترة الحرجة، إصدار المواقف المؤيدة للجيش في مهمته الوطنية، وتقديم كل الدعم والتسهيلات لتمكينه من الإنتشار السريع". وتابعت: "كلام التشكيك والتعويض الصادر من بعض أصوات النشاز، لا يمثل سوى أصحاب العقول المريضة بقصر النظر والتعصب الأعمى، الذين لا يدركون ضرورة الإستفادة من الدروس والعبر، لتجنب الوقوع في التقديرات الواهية، وتكرار الأخطاء القاتلة".
من جهتها، رأت صحيفة "القدس" أن الاتفاق على وقف الحرب جاء "كمسعى لدرء المزيد من القتل والخراب والدمار، وهذا أمر هام في ظل اللحظة الراهنة، حتى وإن كان لا يشمل غزّة التي تنتظر تدخلًا دوليًا عاجلًا لوقف الحرب والإبادة فيها"، داعية "العالم وفي مقدمته أمريكا بتحقيق وقف فوري لحرب الإبادة. فمعاناة الناس وظروفهم وقسوة ما يعيشونه تتطلب تدخلًا عاجلًا، وأن لا تبقى الإرادة الدولية مغيبة أو مرتهنة لحكومة نتنياهو التي لا تريد التهدئة في غزة والضفة والقدس".
في سياق متصل، اعتبرت صحيفة "عكاظ" السعودية أن قرار اعتقال نتنياهو "قد تكون له العديد من التداعيات الخطيرة على أكثر من مستوى، وهو ما يُدخل العالم في أزمات جديدة ساخنة وخاصة مع تصاعد الاحتدام العالمي الذي يوشك أن يتحول لحرب عالمية ثالثة ما بين ليلة وضحاها". وأضافت: "أينما حلّت إسرائيل حلّت معها النزاعات والصراعات، فهي لا تفتأ تهدد السلم العالمي وتتحدى القيم الدولية المتعارف عليها، وهي تستمر في غيها وعدوانها لأنها ترى نفسها فوق المحاسبة والمساءلة".
وشددت صحيفة "الأهرام" المصرية أن قرار المحكمة "قد فجع وأفحم ليس فقط نيتانياهو وإنما أيضا الطبقة السياسية الإسرائيليّة بأجمعها"، موضحة أن هناك من يرى في محاكمته "انتصاراً للحق على الباطل وتحذيراً قوياً للمجتمع الدولي..فمحكمة الجنائية الدولية بلاهاي سوف تسجل رسالة للأجيال المقبلة في قرننا الحادي والعشرين، وسوف تعيد للشعب الفلسطيني تاريخه وعزته وبسالته ووطنه المسلوب"، على حدّ تعبيرها.
بدورها، تناولت صحيفة "القدس العربي" ما يجري في سوريا، إذ "يمثّل هجوم الفصائل الأخير أول تغيير يحدث على موازين القوى في شمال البلاد، في محاولة لاستعادة ما يسمى بـ"منطقة خفض التصعيد" التي اتفقت عليها روسيا وإيران وتركيا في 2019"، منبهة أن "الهجوم، بغض النظر عن سياقه، بادرة لفك الحلقة المغلقة وفتح آفاق تسوية، وإعادة تنبيه العالم إلى "الثقب الأسود" السوري، والذي ساهم، بالتأكيد، في دخول العرب هذه المرحلة المظلمة التي تبدو فيها إسرائيل القوة الناشئة العظمى في المنطقة".
(رصد "عروبة 22")