الحقيقة أنّ هذا القرار أثار ردود فعلٍ واسعة وانقساماتٍ لافتة بين الدّول الغربيّة، فتقريبًا دعمت كل الدول الأوروبيّة استقلالية المحكمة ودعت إلى احترام قراراتها، فيما عدا المجر الدّولة التي استُقبل زعيمُها في مصر وتحدّثت دولتها عن عمق التحالف بين الجانبين، فالمجر كانت الدّولة الأوروبيّة الوحيدة التي قالت بكل فجاجة إنّها ستدعو نتنياهو إلى زيارتها في تحدٍّ ليس فقط لقرار المحكمة إنما أيضًا استهانة بقيمة القانون والشرعيّة الدوليّة.
المسار المدني والقانوني وسيلة لاستعادة الحقوق في تجارب تحرّرية كثيرة
أما باقي الدّول الأوروبية مثل هولندا وبلجيكا وإيطاليا وإيرلندا والسويد والنروج وغيرها، فقد اعتبرت بشكلٍ واضح قرار المحكمة مُلزِمًا مؤكدةً أنّها تحترمه، بينما تمسكت بريطانيا وفرنسا "بالمساحة الرماديّة" وأكّدتا على احترام استقلاليّة المحكمة أو كما قالت وزارة الخارجيّة الفرنسيّة إنّ المحكمة ضامنة للاستقرار الدولي ويجب ضمان عملها بطريقة مستقلّة. وفي الوقت عينه، رفض المتحدّث باسم الوزارة التّعليق على ما إذا كانت فرنسا ستعتقل نتنياهو إذا وصل إليها أم لا، قائلًا: "إنها نقطة معقّدة من الناحية القانونيّة، لذا لن أعلّق بشأنها".
وبطبيعة الحال رفضت الولايات المتحدة القرار وأعلنت بشكلٍ واضح أنها لن تلتزم به، وأصبح السّؤال: هل يمكن أن تستمرّ إسرائيل من دون محاسَبة، طالما أن القوّة العظمى الأولى في العالم تدعم جرائمها وتعتبر الإبادة الجماعيّة في غزّة "دفاعًا عن النفس"، وقتل المدنيين والأطفال في لبنان "حربًا مشروعة"؟
الحقيقة أنّ للمسار المدني والقانوني أهمّيته، لأنه وسيلة لاستعادة الحقوق في تجارب تحرّرية كثيرة أو يشكّل مع المقاومة المسلّحة طريق التحرّر، وفي كلتا الحالتين سيظلّ الهدف النهائي الذي ستصل إليه كل صور المقاومة سلميّة أو مسلّحة هو التفاوض من أجل اتفاقٍ قانوني عادل.
والحقيقة أيضًا أنّ قرار المحكمة الجنائيّة الدوليّة لم يأتِ من فراغ ولم يهبط كهديةٍ من السّماء، إنما جاء نتيجة تحرّك شجاع وبطولي لجنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدوليّة من أجل إدانة إسرائيل وضمان حماية المدنيّين الفلسطينيّين من الجرائم الإسرائيليّة على الرّغم من معرفتها مُسبقًا بجوانب الخلل والانحياز الفجّ الذي أصاب المؤسّسات الدّوليّة وخاصة مجلس الأمن تجاه جرائم دولة الاحتلال.
لقد فتحت تحرّكات جنوب أفريقيا طريقًا مُهمًّا تخلّت عنه الكثير من الدّول العربيّة من أجل الضّغط على إسرائيل وفضحها وممارسة الضّغوط الدوليّة والقانونيّة عليها، خصوصًا أنّ جنوب أفريقيا دولة مدنيّة ديموقراطيّة تمتلك تاريخًا مُلهِمًا في النضال ضد الفصل العنصري، وأنّها على الرّغم من مشاكلها الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة، إلا أنّها انحازت لقِيَمها ومبادئها وتاريخها على الرّغم من أنّها ليست طرفًا في أي صراع مع إسرائيل ولا يوجد لديها مواطنون يعيشون في غزّة أو تضرّروا من هذه الحرب، كما أنها ليست دولةً يُصنّفها الغرب بـ"المارقة" ولا تنتمي لـ"محور الممانعة" الذي يرفضه الغرب ومعه دول عربية كثيرة.
ليس مطلوبًا أن تنتقل الدول العربية من الاعتدال إلى الممانعة إنما من حالة "الاعتدال الخامل" إلى "الاعتدال الفاعل"
دور جنوب أفريقيا في قرار المحكمة الجنائيّة الدوليّة أساسي منذ أن ذهبت إلى محكمة العدل الدوليّة، كما أنها قدّمت نموذجًا مُلهمًا للشعب الفلسطيني لأنّ شعبها على الرّغم من مشاكله، انتصر على نظام الفصل العنصري الذي أعاد استنساخ نفسه بصورة أكثر بشاعة وقسوة مع الدّولة العبريّة.
محاسَبة إسرائيل ستتمّ إذا قامت الدّول العربيّة بما قامت به جنوب أفريقيا فليس مطلوبًا أن تحارب إسرائيل ولا تنتقل من الاعتدال إلى الممانعة إنما أن تبني نموذجًا سياسيًا كفوءًا ودولة قانون تحترم شعوبها وتاريخها الوطني وتنتقل من حالة "الاعتدال الخامل" إلى "الاعتدال الفاعل" وتقود المقاومة المدنيّة ضد جرائم الاحتلال الإسرائيلي بكل الأدوات القانونيّة والإعلاميّة والسياسيّة وتتوقّف عن المواقف الباهتة والحياد السلبي (لم يصل حتى أحيانًا للحياد الإيجابي) تجاه ما يجري في غزّة ولبنان من جرائم، وكأنها تجري في كوكبٍ آخر وليس في وطننا العربي وعلى حدود أكثر من دولة.
ستحاسَب إسرائيل إذا قدّم القادة الفلسطينيّون نموذجًا في الوحدة بين فصائلهم، وحافظت النُخب اللبنانية على السّلم الأهلي بعد توقّف الحرب، وشعر كل هؤلاء الذين دافعوا عن حقوق الشعب الفلسطيني ورفضوا جرائم دولة الاحتلال بأنّهم لا يدافعون فقط عن قيمةٍ عليا أو مبادئ نبيلة إنما أيضًا عن شعوبٍ حيّة تبني شبكات مصالح حول العالم دفاعًا عن قضاياها وتدعم صعود السرديّة المخالفة للسرديّة الصهيونيّة الحاكمة في أميركا والغرب، وعندما يتحقّق ذلك يمكن أن تحاسَب إسرائيل وتدفع ثمن جرائمها التي لا تتوقّف.
(خاص "عروبة 22")