أفضت أشغال المؤتمر إلى مجموعةٍ من الخُلاصات والتوصيّات، منها ضرورة تطوير التّشريعات العربيّة والدوليّة لمواجهة التحدّيات الناجمة عن التحوّلات التكنولوجيّة الكبرى، خاصّة تلك المرتبطة بالذّكاء الاصطناعي، بُغية تعزيز حماية المعطيات الشخصيّة والمُلكيّة الفكريّة والصناعيّة والتجاريّة وترتيب المسؤوليّات القانونيّة، إلى جانب تعزيز المعايير الأخلاقيّة وتطوير الأجهزة القضائيّة والإداريّة بما يتيح مواكبة هذه التحوّلات.
التّبعية التّكنولوجيّة تعدّ أحد أهم مظاهر الاستعمار الجديد
كما تعرّضت التوصيّات أيضًا لمسألة تعزيز آليات التّعاون العربي المشترك في مجال البحث العلمي وبحث سُبُل تعزيز استفادة الاقتصاد من هذه التطوّرات التكنولوجيّة مع الحفاظ على حقوق المستخدمين والعمّال.
جسامة التّحدّيات وضعف الإمكانات
ما انتهى إليه المؤتمر العربي الثّالث للملكيّة الفكريّة من توصيات يعكس حالة القلق البالغ لدى معظم الدّول العربيّة إزاء التحوّلات التكنولوجيّة غير المسبوقة التي فاقت قدرة بعضها على المواكبة والتتبع، في ظل تعدّد التحدّيات الاقتصاديّة والقانونيّة والتكنولوجيّة وضعف الإمكانات البشريّة والماديّة المرصودة لمواجهتها، وهو ما قد يُفوّت مرةً أخرى على معظم الدّول العربيّة الاستفادة من ثورةٍ تكنولوجيّة من شأنها أن تضمن لها مكانًا بين كبار العالم، كما سبق وأن فوّتت عليها فرصًا عديدة للّحاق بالرّكب، كان لها أثرٌ بالغٌ فيما تعانيه الدّول العربيّة من تخلّف اقتصادي وتجاوز تكنولوجي.
إنّ رهاب التجاوز التّكنولوجي المُعبَّر عنه من قبل عددٍ من الخبراء والباحثين العرب، مردُّه إلى غياب استراتيجيّة عربيّة موحّدة لمواكبة هذه التحوّلات على مختلف المستويات، فكل ما يمكن الإشارة إليه في هذا الصدد، هو عبارة عن سعيٍ منفردٍ لعددٍ من الدّول العربيّة لمواجهة هذه التحدّيات بإمكاناتها الخاصّة في غيابٍ تام لأيّ تنسيقٍ بين الدّول، بما فيها تلك التي تنتمي لبعض التكتّلات الإقليميّة العربيّة، وهو ما جعل استفادة الدّول العربيّة من هذه الثّورة التكنولوجيّة، جدّ محدود، خصوصًا بالنّسبة لبعض الدّول العربيّة الفقيرة التي تجتاز في الوقت الرّاهن ظروفًا عصيبة جرّاء الاضطرابات الأمنيّة والحروب الأهليّة، وهو ما سيعمّق التفاوتات بين الدّول العربيّة في هذا المجال، ويجعل من الصّعب الحديث مستقبلًا عن أيّ تكتُّل عربي في ظل هذا التفاوت التكنولوجي.
الذكاء الاصطناعي يشكّل فرصة لتدارك الزّمن التّنموي المهدور قد تمكّن الدول العربية من تطوير اقتصادها
كما سيُفاقم التفاوت بين الدول العربية وضع التّبعية التّكنولوجيّة التي تعدّ اليوم أحد أهم مظاهر الاستعمار الجديد، بالنّظر إلى الوضع الاحتكاري الذي أضحى عليه المشهد التّكنولوجي، فعددٌ قليلٌ من الشركات الغربيّة العملاقة هي من تمتلك مفاتيح هذه الثّورة التّكنولوجيّة، وهو ما يشكل خطرًا وجوديًّا على معظم الدّول العربيّة في ظلّ الإمكانات اللامحدودة التي بات يُتيحها الذّكاء الاصطناعي، وهي إمكانات تُتيح التعرّف إلى كل البيانات المتعلّقة بالأمن والاقتصاد والمجتمع وغيرها. كما تُتيح إمكانية تحليلها وإعادة توظيفها للتحكّم بالدّول والشّعوب، وهو أمرٌ إن تحقّق، فستنجم عنه عبوديّة جديدة من الصعب مواجهتها بالطرائق الكلاسيكيّة، فالخطر التّكنولوجي لا يمكن مواجهته إلا بالوسائل عينها أو بما يفوقها، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظلّ التشرذم العربي الراهن، وتشتّت الإمكانات وعدم استقلاليّة القرار.
تجاوز الانتظارية وتفعيل آليات التّعاون العربي
وإن كان هذا المؤتمر مناسبةً لبثّ رسائل مباشرة للدّول والحكومات العربيّة من أجل تجاوز خلافاتها، والسعي المشترك لبناء قواعد تعاون عربي مشترك في هذا المجال، فإنّ الوضع الرّاهن بات يقتضي تجاوز الانتظارية، والانتقال إلى تفعيل آليّات التّعاون العربي الموازيّة، في مقدّمها تفعيل البحث العلمي المشترك بين مختلف المعاهد والجامعات العربيّة، وفتح المجال أمام المقاولات والمجتمع المدني بهدف تفعيل مبادرات التّقريب بين الشعوب والدّول، وذلك بعد أن فشلت البنيات السياسيّة في تحقيق ذلك.
إنّ الذّكاء الاصطناعي بقدر ما بات يمثّله من مخاوف متعاظمة لدى عدد من الدّول العربيّة، فإنّه في الآن عينه، قد أضحى يُشكّل فرصةً للتّقريب بين هذه الدّول وأداةً لتدارك الزّمن التّنموي المهدور قد تمكّنها من تطوير اقتصادها وتعزيز آليات مواجهة التحدّيات الأمنيّة والمجتمعيّة وتجاوز وضع التشظّي الرّاهن.
(خاص "عروبة 22")