دَرَجَ التّناول السّطحي لقضيّة "سلعنة" التّعليم على ربطِها بعوامل مباشرة سواء تلك المرتبطة بالمدرّسين أو بالمستثمرين. فيتمّ في ضوء تلك المُقاربة الخاطئة اتّهام المدرّسين باستغلال سلطتهم البيداغوجيّة والرّمزيّة على تلاميذهم لفرض الدّروس الخصوصيّة عليهم، وجني مبالغ ماليّة مهمّة. كما يتمّ اتّهام المستثمرين في القطاع التّعليمي بالجشع ومراكمة الأرباح الطّائلة في ظلّ تآكل المرافق التّربويّة العموميّة وتصدّع المنظومة التربويّة على كلّ المستويات. وهو ما فرض على الأولياء البحث عن فضاءات جديدة خاصّة قادرة على الاستجابة لتطلّعات أبنائهم وتأمين مستقبلهم. ويمكن الإشارة، ضمن ذلك التّناول السّطحي عينه، إلى التّفسير الثّقافوي الذي يربط سلعنة التّعليم بخروج المرأة للعمل.
بيد أنّ العوامل البُنيويّة العميقة لظاهرة تسليع التّعليم تكشف بوضوح خطورة السّياسات التّنمويّة والثّقافيّة والتّربويّة التي انتهجتها الدّول العربيّة في تدبير الشّأن العام. فلئِن تنوّعت الخيارات الاقتصاديّة المتّبعة، وتقلّبت بين المنوالَيْن الاشتراكي والرّأسمالي، فإنّها أفضت إلى نتائج عكسيّة. إذ في أفضل الأحوال تحقّق نموّ من دون تنميّة مثلما تشهد على ذلك التّجربة التّونسيّة في عهد الوزير الأوّل الأسبق محمد الغنّوشي من سنة 1999 إلى سنة 2011. والحقيقة أنّ جذور تلك الأزمة تعود إلى منتصف ثمانينيّات القرن الماضي حينما اضطرّت الحكومة التّونسيّة إلى الاستعانة بالمانحين الدوليّين مثل صندوق النّقد الدّولي والبنك الدّولي لتغطية نفقاتها وتسديد حاجيّاتها التي منها بلا شكّ أعباء التّعليم العمومي.
يمكن الاستفادة من تجارب الوقف العلمي الناجحة التي شهدتها الحضارة الإسلاميّة مع تطويرها وتقنينها
لم يقتصر تدخّل المانحين الدوليّين على الهيئات الماليّة الدّوليّة، وإنّما شمل كذلك بعض الدّول الغربيّة مثل كندا وبلجيكا فضلًا عن فرنسا والولايات المتحدة الأميركيّة. وقد ربطت كلّ هذه الدول تمويلاتها الماليّة من هباتٍ وقروض وخبرات فنيّة بتطبيق خيارات وتمشّيات بيداغوجيّة ومنهجيّة محدّدة مثل فرض تجربة المقاربة بالكفايات الأساسيّة من دون مراعاة للسياقات الخاصّة بالناشئة التّونسيّة والعربيّة عمومًا.
ولئِن بدا تدخّل المموّلين الدوليّين في الشّأن التّعليمي العربي راجع إلى عجز الدّول العربيّة عن الاستمرار في التكفّل بأعباء التّعليم العمومي مجانيًّا، فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ العولمة فرضت منطقها الخاصّ. ففي ظلّ هشاشة البُنى الأساسيّة وارتجاليّة السّياسات التّعليميّة والثّقافيّة العربيّة لم تستطع المدرسة العموميّة مسايرة نسق التحوّلات الكبرى التي فرضتها العوْلمة على مستوى تطوّر التّجهيزات البيداغوجيّة والأنظمة الاتّصاليّة والمعلوماتيّة والرّقميّة على الرّغم من أنّ أصوات الباحثين والمفكّرين العرب لم تنقطع عن الدّعوة إلى ضرورة استعداد المنظومة العربيّة لتطوّرات كبرى منذ السبعينيات مثلما يبرز ذلك في عديد التّقارير العلميّة والنّدوات والتوصيّات على غرار تقرير المهدي المنجرة الشّهير الذي أعدّه ضمن نادي روما سنة 1979.
التّعليم التّشاركي تسهم فيه الدّولة عبر الإشراف والمراقبة ويسهم فيه المجتمع عبر الاقتراحات والتّمويلات
تقتضي مقاربة تجاوز مأزق تسليع التّعليم بالعالم العربي معالجةً جذريّة للعوامل المذكورة سابقًا بدل الحلول التّرقيعيّة. ولعلّ أوّل المداخل الإصلاحيّة مصارحة الحكومات العربيّة لشعوبها في ما يخصّ رؤيتها الحاليّة ومفهومها الجديد للتّعليم، وعدم قدرتها على الاستمرار في التّكفّل بأعباء العمليّة التّعليميّة. وهو ما يعني عمليًّا البحث عن شروط ضمان "استقلاليّة" التّعليم التي سبق للجابري طرحها ومناقشتها منذ أربعة عقود في تقريره عن التّعليم بالمغرب العربي. ولئِن كانت عبارة استقلاليّة التّعليم قد تثير حفيظة بعضهم، فيرون فيها دعوة إلى الفوضى، فإنّه يمكن إيجاد معادلة جديدة ضمن رؤية لـ"تعليم تشارُكي".
الاستخفاف بقضية تسليع التّعليم يهدر كلّ أمل في بناء مستقبل واعد لشعوب المنطقة العربيّة
التّعليم التّشاركي الذي نقصده تسهم فيه الدّولة بنصيب عبر الإشراف والمراقبة، ويسهم فيه المجتمع بنصيب آخر عبر الاقتراحات والتّمويلات الشّفّافة من دون أن يفضي ذلك إلى المزيد من تفقير أو تهميش الفئات الهشّة اجتماعيًّا. ويمكن في هذا الصّدد الاستفادة من تجارب الوقف العلمي الناجحة التي شهدتها الحضارة الإسلاميّة مع تطويرها وتقنينها. وهو أمرٌ قابل للتحقّق في حالة الانفتاح على تجارب وقفيّة معاصرة مقارنةً بالغرب حيث يتمّ تمويل عديد الجامعات المرموقة عالميًّا.
إنّ التّراخي والاستخفاف بقضية تسليع التّعليم لا يعرّض فقط الأمن القومي للخطر، وإنّما كذلك يهدر كلّ أمل في بناء مستقبل واعد لشعوب المنطقة العربيّة.
(خاص "عروبة 22")