بدايةً، نشير إلى أنّ هناك مشترَكًا بين الاتّفاقيّة التّاريخيّة (سايكس ــ بيكو) والبيان الرّاهن (بيان آستانا) هو: فلسطين ولبنان وسوريا؛ بالأساس، أو حسب الأدبيّات التّاريخيّة "سوريا الكبرى".
بالنّسبة إلى اتفاقية "سايكس ــ بيكو" فلقد تمّ صياغة الاتّفاق سرًّا، أوّلًا بين القوّتَيْن الاستعماريتَيْن التاريخيتَيْن: بريطانيا وفرنسا لتقاسُم تلك الدّول التي كانت تتبع الدّولة العثمانيّة التي كانت شارفت على الانهيار وذلك بمباركة روسيّة آنذاك.
أما بالنّسبة لبيان "آستانا" الرّاهن فلقد أتى بعد أن جرت تحوّلات جذريّة في السياقَيْن الفلسطيني واللّبناني على يد كيان الاحتلال الإسرائيلي وذلك على مدى أكثر من سنة منذ انطلاق "طوفان الأقصى" في أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد فرضت تلك التحوّلات والتي كان من أبرزِها ضرب قوى المقاومة ضربةً قاصِمة، أن يطال التحوّل السياق السّوري وهو ما تكفّلت به ما اصطُلح على تسميتِها بقوى المعارضة السّورية، أو فصائل المعارضة، التي تضمّ خليطًا متنوّعًا من جماعات وفواعل: قوميّة ومذهبيّة سوريّة من جهة، ووافِدة من جهة أخرى، مدعومة من قوى إقليميّة متنوّعة ومباركة أميركيّة.
لماذا لم يستطِع العرب بلورةَ مشروعٍ نهضويّ عربيّ تنمويّ وثقافيّ قادر على مواجهة التّحديّات؟
والمدقِّق في الحالتَيْن، على الرّغم من الفارق الزمني بينهما، سوف يدرك استئثار القوى الدّولية في الحالة التّاريخيّة من جانب، والقوى الإقليميّة - غير العربيّة - في الحالة الرّاهنة، بإدارة مقدّرات دول المنطقة/الإقليم من جانب آخر. الأمر الذي يُثير العديد من الأسئلة ويستدعي مراجعةً ذاتيّةً شاملةً تاريخيّةً للمسار التّاريخي الذي سارت فيه دولنا على مدى أكثر من قرن وأبقى الحال على ما هو عليه، وأقصد محاولة الإجابة عن العديد من الأسئلة حول أسباب التّقاعُس الذّاتي لصالح تقدّم الآخرين لتوجيه وإدارة أمور دول المنطقة قسرًا.
وربّما يكون السّؤال الأوّل الذي علينا الإجابة عليه وظنّي أنّه يمثل إطارًا ومدخلًا للمراجعة: لماذا لم يستطِع العرب بلورةَ مشروعٍ نهضويّ عربيّ تنمويّ وثقافيّ قادر على مواجهة التّحديّات الاقتصاديّة، والسّياسيّة، والثّقافيّة، والاجتماعيّة؟. تليه الأسئلة التالية:
- لماذا أخفقت دول ما بعد الاستقلال في جعل السّيادة الوطنيّة حقيقةً بالقدر الذي يحمي الدّولة من التّدخّلات الدّوليّة والإقليميّة من ناحية، ويمنع الجماعات النّوعيّة المواطِنيّة من توثيق علاقاتها بالجماعات الإقليميّة والدّوليّة خارج نطاق الدّولة الوطنيّة لتلبية احتياجاتها وربما رعايتها في بعض الأحيان؟.
- لماذا تكلّست الأنظمة السّياسيّة إلى الحدّ الذي أدّى بها إلى فقدان القدرة على إبداع حلول وطنيّة للتقدّم، ما فتح الطريق أمام القوى الدّوليّة والإقليميّة إلى أن تتولى مهامّ الدّولة الوطنيّة من جانب وفتح قنوات اتّصال مع مواطنيها من جانب آخر، استغلالًا لاكتفاء النّظام السّياسي بممارسة الضّبط الأمني القمعي دون غيره من مهامّ الدّولة الوطنيّة التي تصبّ في تنمية المجتمع وتحقيق رفاهة المواطنين؟.
- لماذا العجز أمام ما جرى ولا يزال يجري بانتظام من انهيارات في البُنى الدّولتيّة والمجتمعيّة؟.
- كيف سمحت الأنظمة السّياسيّة بتفاقم الصّراعات الأهليّة وتمدّد الإيديولوجيّات الدّينيّة الإقصائيّة، ونسج روابط عابرة للحدود بين بعض الجماعات الهُويّاتيّة / الإثنيّة في الداخل وبين قوى الخارج الإقليميّة والدّوليّة؟.
ما سبق نموذج للأسئلة التي علينا الإجابة عليها من خلال حوار وطني واسع من أجل فهم لماذا كان حصاد قرن من الزمان هو إصابة الكثير من دولنا "بالتحلّل القومي"؛ إذا ما استعرنا المفهوم الذي طرحه عالِم الاجتماع السّياسي الفرنسي "برتران بادي"، والذي يقصد به: "الانفجار الدّاخلي المتزايد لهياكل السّلطة وللشّرعيّة، والإخفاق في ممارسة المهامّ الأساسيّة للدّولة ومن ثم تعريض سيادتها للخطر"، ولشتّى أشكال التّدخّل والانتهاك حيث تسقط الحدود الواقعيّة وتتفكّك أوصال الدّولة.
هل يمكن التّحرّر من أجل بناء دول وطنيّة حديثة مستقلّة عصريّة دستوريّة وديموقراطية لجميع المواطنين؟
لا شك أنّ النّظام السّوري قد وصل إلى حالة من التصدّع دفعت الحلفاء إلى التّخلّي عنه بحثًا عمّا يعظّم مصالحهم الخاصّة كما في حالة إيران بخاصّة بعد خروج معسكر المقاومة من المعركة. كذلك حالة روسيا، كي تُبقي على مغانِمِها في سوريا كذلك إيجاد فرصة تسوية مُرْضِية لها فيما يتعلّق بالشّأن الأوكراني. كما شجّعت الخصوم على الانقضاض عليه كما فعلت تركيا. وعلى الرّغم من الفرحة المستحقّة للمواطنين السّوريّين بسبب التخلّص من نظام حُكْم طغى على مدى أكثر من نصف قرن، إلّا أنّ اليوم التالي لسوريا المحرّرة من نظام الأسد حملت أخبارًا تُفيد باغتنام إسرائيل الفرصة لاستكمال ما قامت به في غزّة وجنوب لبنان باحتلال مساحات من الأرض السوريّة وتخصيص مناطق عازلة وتدمير للقوى العسكريّة للجيش السّوري النّظامي. ولا شكّ أنّ الممارسات الإسرائيليّة تُثير الكثير من التّساؤلات - وربما الشّكوك - حول ما جرى، وتطرح تحدّيًا حقيقيًّا على فصائل المعارضة ومدى صدقيّتها وقدراتها.
وبعد، أظنّ أنّ المشهد السوري يجسّد حصاد قرن من الزمان وقعت فيه دولنا في أسر التقاسم - التقسيم، بدرجة أو بأخرى، لقوى إقليميّة ودوليّة وظّفت جماعات ومجموعات لانظاميّة دينيّة وقوميّة وأخرى مرتزقة من أجل تحقيق مصالحها... والسّؤال: هل يمكن التّحرّر من هذا الأسر من أجل بناء دول وطنيّة حديثة مستقلّة عصريّة دستوريّة وديموقراطية لجميع المواطنين على اختلافهم؟.
(خاص "عروبة 22")