لا يهمّنا في هذه المقالة التوقف عند بعض أو مجمل الأسباب التي أفضت إلى هذه الأنظمة، بخاصّة أنّه حُرّر الشيء الكثير حول الموضوع، بصرف النظر عن التباين في مضامين ما صدر حوله، أي التباين بين القراءات المؤدلجة والاختزالية، في مواجهة القراءات المركّبة والرصينة، بقدر ما يهمّنا التوقف عند ظاهرة تستحق المزيد من الاشتغال البحثي، نزعم أنّها تساهم في تغذية سيناريوهات الانقسام العربي من جهة، ومشجعة لخيارات إسقاط الأنظمة.
واضحٌ أنّنا لا نتحدث عن أكبر أو أهمّ الأسباب الذاتية التي تقف وراء سقوط أنظمة العراق وليبيا وسوريا، فهذا أمرٌ بَدهيٌ، لكن لا يمكن صرف النظر أيضًا عن دور الأسباب الخارجية، وفي الحالتين معًا، يهمّنا هنا التوقف عند ظاهرة مؤثّرة في تغذية هذه المسببات.
معارضات عراقية وإيرانية كانت مُعزّزة مُكرّمة في الدول الأوروبية قبل عودتها للمنطقة والإمساك بزمام الحكم
يتعلق الأمر بدور الأدوات الوظيفية في إسقاط نظام سياسي ما، والنموذج هنا بالتحديد الأنظمة العربية، لأنّه يصعب التدقيق في ما جرى مع تجارب أخرى، وخصوصًا التجارب الأفريقية أو تلك التي جرت في الأميركتين، اللاتينية والجنوبية.
ما يصدر عن هذه الأدوات يصب بالضرورة في أفق إسقاط نظام سياسي، في حال عدم الانتباه إلى أدوارها، ونذكر منها على الخصوص:
- تيارات المعارضة التي تحتضنها قوى الصراع في الخارج، والنموذج هنا ما جرى مع عدة معارضات عراقية وإيرانية كانت مُعزّزة مُكرّمة في الدول الأوروبية قبل عودتها للمنطقة والإمساك بزمام الحكم في بلادها، والحديث هنا عن النموذجين السنّي والشيعي في آن.
حالة الاستلاب التي تمر منها مجموعة أقلام عربية تجعلها أقلامًا وظيفية من حيث تدري أو لا تدري
- نجد أيضًا ظاهرة المثقفين الذين يمارسون ما قد نصطلح عليه "استشراق الداخل"، ومنها عدّة أقلام بحثية وإعلامية تمارس الاستعلاء على شعوب المنطقة باسم نزعة دينية أو عرقية أو إيديولوجية، وتنشر آراء تبدو كما لو أنّها صادرة عن استشراق الخارج، وهي الظاهرة التي اصطلح عليها الراحل محمد عابد الجابري بأقلام "العمالة الحضارية"، أو أقلام "عرب البيت الأبيض" بتعبير الباحث والروائي البريطاني - الباكستاني طارق علي، كما في جاء كتاب حواري له أجراه معه ديفيد بارساميان الذي اشتهر بإجراء حوارات نوعية مع العديد من رموز الفكر الإنساني المعاصر، من طينة الراحلين إدوارد سعيد وإقبال أحمد، أو نعوم تشومسكي ونورمان فلنكشتين ضمن أسماء أخرى.
يقصد طارق علي هنا مجموعة أقلام عربية، تتحدث عن الشعوب العربية كما لو أنّها ناطقة بلسان صنّاع القرار الأميركي - الأوروبي، مع أنّها عربية الأصل و"الهوية"، لكن حالة الاستلاب التي تمر منها، تجعلها أقلامًا وظيفية من حيث تدري أو لا تدري: من حيث تدري إن كانت واعية بهذه المهام الموكلة إليها، أو لا تدري إن كانت تنشر تلك الرؤى الاستشراقية عن حُسن نية وهي تحسب أنّها تحسن صنعًا، بينما الأمر خلاف ذلك.
إنّنا إزاء مشروع جهادي محارَبٌ تارة ومُرَحبٌ به تارة أخرى حسب ما تقتضيه سياقات الفورة الاستراتيجية
- نجد كذلك في خانة الأدوات الوظيفية، نسبة معينة من الحركات الإسلامية المُصنّفة في الحالة الجهادية، وهذه جزئية لا زالت في مقام "التابو" تقريبًا، مع أنّها جلية في الساحة منذ أحداث الحرب الأفغانية الأولى، ابتداءً من سنة 1979، والتي أفرزت لنا حينها ظاهرة "الأفغان العرب"، في النسخة الأولى قبل معاينة النسخة الثانية من الظاهرة أو الجيل الثاني منها مباشرةً بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001، فالأحرى ما عاينه الجميع مباشرةً بعد اندلاع أحداث 2011.
فتارة يتم وصف هذه الجماعات بأنّها "إرهابية"، وتارة تصبح في مقدمة "المقاتلين من أجل الحرية"، من قبل النظام السياسي نفسه، كما جرى عمليًا مع التوصيف التركي هنا في المنطقة أو التوصيف الأميركي، أي أنّنا إزاء مشروع جهادي محارَبٌ تارة ومُرَحبٌ به تارة أخرى، حسب ما تقتضيه سياقات الفورة الاستراتيجية، في هذه المنطقة أو تلك.
ولا يقتصر الأمر على هذا المأزق وحسب، بل نعاين تورط عدّة أقلام فكرية ودينية في تكريس هذه الازدواجية باسم الدين أو الحداثة أو الأخلاق أو المقاصد أو حتى باسم التصوّف، وما أكثر الأمثلة المؤسفة في سياق يُصنف في خانة العبث.
(خاص "عروبة 22")