وجهات نظر

مقايضات وانقلابات ما بعد سقوط دمشق!

إثر احتلال العاصمة العراقيّة بغداد عام 2003، تبدّت حالة فراغ استراتيجي في المشرق العربي. التّاريخ لا يعرف الفراغ. تقدم لاعبان إقليميّان لملء ذلك الفراغ بطريقتَيْن مختلفتَيْن. التّركي، بقوّة نموذجه السّياسي والاقتصادي عند مطلع القرن الجديد حيث بدا مُلهِمًا لإمكانيّة التّزاوج بين الإسلام والعلمانيّة. والإيراني، بطموحه للعب دورٍ إقليمي أكبر اعتمادًا على الدّور السّياسي للشّيعة في أنحاء مختلفة من العالم العربي واستعداده للمضي قدمًا في دعم المقاومة الفلسطينيّة.

مقايضات وانقلابات ما بعد سقوط دمشق!

لم يصمد التّركي في السّباق الإقليمي على القوّة والنّفوذ. أنهكته "العثمانيّة الجديدة"، التي تبنّاها رجب طيّب أردوغان، والنّموذج كلّه تراجع بفداحة تحت وطأة انهيار قيمة اللّيرة والمشاحنات الإقليميّة، التي تورّط فيها. في الوقت عينه، اكتسب الدّور الإيراني شعبيّته من البوّابة الفلسطينيّة، على الرّغم من الحصار الاقتصادي والسّياسي الذي فرضته الولايات المتّحدة بذريعة منعِه من امتلاك قنبلة نوويّة وتطوير مشروعه الصّاروخي.

إثر سقوط العاصمة السّورية دمشق، اختلفت حسابات وموازين القوى، كأنّه انقلاب إقليمي مُزلزِل بآثاره وتداعيّاته.

عادت أشباح التّقسيم تخيّم على المكان، تركيا تطمح لضمّ حلب إليها بمقايضة على ما فعلته عام (1939) عندما ضمّت "لواء الإسكندرون" إليها باتفاق مع فرنسا قبيْل الحرب العالميّة الثّانيّة.

لا تُخفي إسرائيل بدورها تأهّبها للتمدّد على حساب دول المشرق العربي، سوريا ولبنان والأردن والعراق، واصلةً إلى مصر إذا ما جرى تهجيرٌ قسريٌّ من غزّة إلى سيناء، وضمّ أجزاء من السّعوديّة كما صرّح الوزير المتطرّف بتسلئيل سموتريتش.

كاد أن يغيب أيّ دور عربي فاعل ومؤثّر في الحسابات المستجدّة وهذه مأساة كبرى

إنّها "سايكس - بيكو" جديدة بتعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لم يتورّع عن اقتناص اللّحظة الحرِجة لتجريد سوريا من قوّتها العسكريّة، مخازن السّلاح ومرابض الطّائرات وأسطولها البحري، لتبقى عاجزةً تمامًا لآماد طويلة. ألغى اتفاقية فضّ الاشتباك (1974) واحتلّ المنطقة العازلة وقمّة جبل الشّيخ الاستراتيجيّة وتقدّمت قوّاته حتى قرب جنوب دمشق.

كان تصريح أحمد الشرع (أبو محمّد الجولاني سابقًا)، كاشفًا للتّحالفات الخفيّة: "لسنا في وارد خوض صراعٍ مع إسرائيل".

إنّنا أمام صعود النّفوذ التّركي، الذي موّل ودعم "جبهة تحرير الشّام" وهندس المشاهد الأولى، وتراجعٍ للدّور الإيراني، وتغوّلٍ للدّور الإسرائيلي.

كاد أن يغيب أيّ دور عربي فاعل ومؤثّر في الحسابات المستجدّة انتظارًا إلى ما تجري به المقادير! وهذه مأساة كبرى بأيّ حساب، أو قياس. لا أحد يحارب بالنّيابة معارك الآخرين.

في لحظة النّهاية تخلّى حلفاء بشار الأسد عن دعم نظامه. لم يُطلق رصاصة واحدة ولم يدافع عن عاصمته وسجلّه الدّاخلي استقطب المشاعر العامّة ضده إلى حدود الكراهيّة العميقة.

تخلّى عنه في وقت واحد، شعبه وحلفاؤه، تفكّك جيشه وسارع حزب "البعث" نفسه إلى دعم وتأييد القادمين الجُدد.

حكّمت حسابات إيران مصالحها الاقتصاديّة والأمنيّة لكن النّتائج المباشرة أفضت إلى خسارة فادحة في أدوارها الإقليمية

سقطت دمشق في عشرة أيام من بدء ما أُطلق عليها "عمليّة ردع العدوان"، التي هندستها الاستخبارات التّركية في يوم وقف إطلاق النّار في لبنان.

استهدفت العمليّة منع وصول السّلاح للمقاومة اللّبنانية عبر الحدود. كانت تلك مقايضة لتأمين الدّعمَيْن الأميركي والإسرائيلي. أقنعت أنقرة - كما تقول - طهران وموسكو بعدم التّدخل العسكري لإنقاذ "نظام الأسد".

بعيدًا عن نظريّات المؤامرة لم يكن ممكنًا لإيران، أو أيّ من حلفائها، التّدخّل عسكريًّا في ظروف ما بعد وقف إطلاق النّار في لبنان. لم تكن إيران بعيدة عن ذلك الاتّفاق، الذي بدت وثيقته أقرب إلى "وثيقة إذعان". حكّمت الحسابات الإيرانيّة مصالحها الاقتصاديّة والأمنيّة في رفع العقوبات القاسية المفروضة عليها. من حقِّها كدولة أن تتصرّف وفق ما تراه من مصالح، لكن النّتائج المباشرة أفضت إلى خسارة فادحة في أدوارها الإقليمية.

الخسارة الرّوسية أفدح حيث أضرّت بصدقيّة فلاديمير بوتين بين حلفائه وأثّرت بالسّلب في أيّ أدوار مستقبليّة يطمح لها بعد انتهاء الحرب الأوكرانيّة.

تدخّلت موسكو عام 2015 في الأزمة السّوريّة وعينها على موضع قدم في المياه الدافئة. أنشأت قاعدةً جويّة في "حميميم" جنوب شرق اللّاذقيّة وقاعدة بحريّة في طرطوس. أقامت تحالفًا مع إيران وتركيا لوقف التّصعيد، الذي انهار تمامًا مع دخول قوّات "هيئة تحرير الشام" (جبهة النّصرة سابقًا)، إلى حلب.

لم يكن ممكنًا لموسكو أن تحارِب بالنّيابة داخل الأراضي السوريّة على حساب قضية أمنها القومي المباشر في أوكرانيا

يصعب أن تحافظ موسكو على قواعدها العسكريّة في سوريا على الرّغم من التّفاهمات الرّوسيّة التّركيّة. ربّما تطالب بمعاملة مماثلة مع القواعد الأميركية والتّركية، هذه مسألة مقايضات استراتيجيّة يصعب تمريرها بدون أثمان باهظة. لم يكن ممكنًا لموسكو أن تحارِب بالنّيابة داخل الأراضي السوريّة على حساب قضية أمنها القومي المباشر في أوكرانيا.

بعد طول تحفّظ، سمح جو بايدن باستخدام الصّواريخ الباليستيّة الأميركيّة طويلة المدى لضرب الأراضي الرّوسية من أوكرانيا.

أراد بالضّبط، بالفعل وردّ الفعل، قطع الطّريق أمام الرئيس المنتخب دونالد ترامب للوصول إلى أي تسوية مع بوتين.

نحن أمام منهجَيْن متضادَّيْن: التّصعيد أم التّهدئة؟ أحدهما، فشل تمامًا، لكن أوروبا تؤيّده والبنتاغون يتبنّاه. والآخر، لا تسانده خطّة واضحة، وكل ما هو ظاهر على سطح الحوادث تعهّد ترامب بإنهاء الحرب قبل دخوله البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثّاني المقبل.

في مساجلات القوّة والسّياسة، حاول الرّئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن يجد لنفسه مخرجًا قبل أن يتولّى ترامب مهامّه الرئاسيّة معلنًا أنّ "المرحلة السّاخنة قد تنتهي إذا أصبحت أراضي أوكرانيا غير المحتلّة تحت مظلّة الناتو"... وأنّه "مستعد أن يتفاوض على إعادة الأراضي الخاضعة لروسيا حاليًّا بطريقة ديبلوماسيّة".

كانت تلك محاولة في الوقت بدل الضّائع لإقناع بايدن بضمّ أوكرانيا لحلف "الناتو" وإقناع ترامب في الوقت عينه بأنّه منفتح على تسوية تُنهي الحرب! في مثل هذه الأوضاع الرّوسية القلقة، لم يكن ممكنًا المخاطرة بأي قدر، وترك "الأسد" لمصيره.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن