اقتصاد ومال

"الوجه الآخر" لترامب: الرّأسمال المدني الأميركي والاقتصاد العربي

محمد زاوي

المشاركة

تحدّثنا في مقالٍ سابق عن الإمكانات التي تُتيحها عودة دونالد ترامب للاقتصادات العربيّة، وهي تلك التي يمكن إجمالها في: تحرير الاقتصاد العربي من الابتزاز السّياسي والعسكري، توفير فرص للاقتصاد المدني العربي في السّوق الدّوليّة، فتح المجال أمام الاقتصاد العربي للاستفادة من التّنافس الاقتصادي بين القوى الدّولية الكبرى، التّخفيف من تأثير السّوق السّوداء في الاقتصادات العربيّة (المقصود بالسّوق السّوداء هو سوق المخدّرات والدّعارة وتجارة السّلاح...)، إلى غير ذلك من الفرص التي يُتيحها الرّأسمال المدني الأميركي، أو لنقلّ إنّ تلك الفرص الُتي تُتيحها السّياسات الرّأسماليّة المدنيّة أكثر من نظيرتها الرّأسماليّة العسكريّة.

ليست العلاقة بالولايات المتّحدة الأميركيّة علاقةً سياسيّة ديبلوماسيّة محضة، وإنّما هي علاقة اقتصاديّة أساسًا، لأنّها تتحدّد بالجوهر الاجتماعي للرّأسمال المُسيطر/الحاكم في الولايات المتّحدة.

وبالرّجوع إلى دونالد ترامب، نجد أنّه يُمثّل الرّأسمال الصّناعي المدني، وهذا يتحدّد جوهره الاجتماعي:

أوّلًا، بعلاقات الإنتاج الرّأسماليّة حيث استغلال الطّبقة العاملة و"اغترابها" وسلب فائض قيمتها؛

ثانيًا، بالنّموذج المدني لهذا الرّأسمال حيث الاستثمار في الزّراعات والخدمات والبحث التّكنولوجي والصّناعات المدنيّة؛

وثالثًا، بعلاقات "التبادل اللّامتكافِئ" بين الشّمال والجنوب، وبلغة أخرى، بين أميركا وباقي دول العالم، هذه سياسة تنزع أميركا إلى ممارستِها مع الصّين عينها.

الدول العربية تجد نفسها في مواجهة "هيمنة اقتصاديّة" تُسائِل قدرتها على المنافسة الدّاخليّة والخارجيّة

هكذا تفرض السّياسات الاقتصاديّة المدنيّة "التّرامبيّة" على قوى الإنتاج الأميركيّة نموذجًا مدنيًّا مهيمنًا في التطوّر، بدل النّموذج العسكري القائم على السّيطرة الخارجيّة.

وإذا كانت الدّول العربيّة تتخلّص مع ترامب من السّيطرة الأميركيّة إلى حدٍّ بعيد، أو أكثر ممّا تتخلّص منها مع العسكريّين، في مرحلة انتقاليّة يتّسم بها العالم والواقع الأميركي عينه؛ إذا كانت الدّول العربيّة كذلك، فإنّها من جهة أخرى تجد نفسها في مواجهة "هيمنة اقتصاديّة" تُسائِل قدرتها على المنافسة الدّاخليّة، أي في أسواقها، فضلًا عن المنافسة الخارجيّة، أي في السّوق الدّوليّة. كما تضطرّ للتّعامل مع إدارة أميركيّة مُصرّة على إنجاح الانتقال الخاصّ بها في الولايات المتحدة، وبها وبغيرها في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم ككلّ.

هذا هو التّحدّي الذي تفرضه عودة ترامب على الاقتصاد العربي، فتطرح عليه سؤالَيْن رئيسيَّيْن: ما مدى قدرته على منافسة رأسمال أميركي قوي ومُهَيمن؟ وإلى أي حدّ هو قادر على مجاراة الطّموح الأميركي في الانتقال من حيث التّمويل والتّكلفة؟

هما سؤالان ستُجيب عنهما كل دولة عربيّة حسب خصوصيّتها، وحسب طبيعة علاقتها بالولايات المتحدة الأميركية... وفيما يلي بعض العناصر التي يجب استحضارها في خضمّ تحليل العلاقة بين الجانبَيْن العربي والأميركي خلال مرحلة دونالد ترامب:

- حاجة الرّأسمال الأميركي: فهو كباقي الرّأسمالات في حاجة إلى اليد العاملة والموادّ الخامّ، بالإضافة إلى حاجته للحصول على استثمارات خارج الولايات المتحدة الأميركيّة. وتتفرّع عن هذه الحاجة الرّأسماليّة سياسات، كسياسة الهجرة المقيّدة بالخبرة وحاجة الرّأسمال الأميركي في العلاقة بشعوب العالم بمن فيها الشّعوب العربيّة؛ ومن قبيل سياسة التّفاوض مع الدّول على أساسَيْن: استثمار الشّركات الأميركيّة فيها بشروط مربحة، وحصّة الرّأسمال الأميركي من الثّروات الطبيعيّة (النّفط/الغاز/الفوسفات…) في إطار صفقات تبادليّة مربحة وغير متكافِئة، لأنها تتمّ بالدولار، وبالمقابل الذي يفرضه الرّأسمال الأجنبي.

- مطالب الانتقال داخل أميركا وخارجها: والمقصود بالانتقال الدّاخلي هو إنجاح عمليّة التّحوّل داخل الولايات المتّحدة الأميركيّة من "اقتصاد السّيطرة" إلى "اقتصاد الهيمنة"، وبلغةٍ أخرى من "اقتصاد السّوق السّوداء والسّلاح" إلى "الاقتصاد المَدني". والمقصود بالانتقال الخارجي هو إعداد الشّروط الخارجيّة - في الشّرق الأوسط مثلًا حيث تبسط أميركا سيطرتها المُباشرة وغير المُباشرة على الكثير من الملفّات - لتفكيك الاقتصاد الأميركي القائم على السّيطرة في الخارج، بمعنى تفكيك السّيطرة السّياسيّة والعسكريّة المُدرّة للرّبح وتعويضها بهيمنة اقتصاديّة تنافس الصّين والهند والقوى الاقتصاديّة الصّاعدة. يتطلّب هذا الانتقال، الدّاخلي والخارجي منه، تكلفة كبيرة؛ وهو أيضًا في مصلحة الدّول العربيّة التي ضاقت ذرعًا بالسّيطرة الأميركيّة لعقود... ولذلك فهي مطالبة أميركيًّا بالمساهمة "الفعّالة" في تمويله (نموذجه الهِبة التي قدّمتها السّعودية لترامب في بداية ولايته السّابقة).

الرّغبة بالاستثمار والرّبح تُقابلها رأسمالات عربيّة صاعدة من جهة وتبعيّة من جهة ثانيّة وغير مكتملة من جهة ثالثة

- الطابع المهيمن للرّأسمال الأميركي: وهو رأسمال ضخم على جميع المستويات الزّراعيّة والصّناعيّة والخدماتيّة، إضافة إلى أنّه يسعى بإلحاح لتعافي عدد من قطاعاته التي أضرّت بها السّياسات العسكريّة السّابقة للولايات المتّحدة الأميركيّة.

هذه الرّغبة الجامحة في الاستثمار والرّبح والتّعافي تُقابلها رأسمالات عربيّة صاعدة من جهة، وتبعيّة من جهة ثانيّة، وغير مكتملة من جهة ثالثة. فإلى أي حدّ تستطيع الزّراعات العربيّة، مثلًا، منافسة المنتوج الزّراعي الأميركي الضّخم، علمًا أنّه منتوج عمل تقني زراعي متقدّم وخبرة زراعيّة عالية الدّقّة وعلى بساط سهول وحقول غابويّة وغير غابويّة شاسعة؟! ناهيك عن الصّناعات والخدمات الأميركيّة الّتي يسعى ترامب إلى تنميتها وتطويرها أسوة بالصّين وعلى حساب أسواقها وبفرض شروط جمركيّة عليها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن