عدا عن الجانب الفكري، فإنّ العوامل الطّبقيّة قد لعبت دورًا مهمًّا، فهؤلاء المثقّفون ينتمون إلى الفئات الوسطى المتطلّعة إلى أدوارٍ ترِث الطّبقات القديمة ذات الثّقافة العثمانيّة. كذلك، فإنّ الفئات الاجتماعيّة الدّنيا في المُدن والأرياف، ممّن تمكّن أبناؤها من تحصيل العلم بعد انتشار المدارس في البلدات والأرياف، وحصلوا على الشّهادة الثّانوية، كانوا أكثر طموحًا لتولّي الوظائف والخروج من التّهميش، وقد وجدوا في الانتماء إلى الجمعيّات والنّوادي سبيلًا إلى حيازة المكانة وكانوا مادّة الأحزاب القوميّة والشّيوعيّة على حد سواء.
وقد جاء الإعلان عن تأسيس حزب البعث عام 1947، بمثابة ولادة حزب القوميّة العربيّة، وخصوصًا بعد الاندماج مع حزب الشّعب بقيادة أكرم الحوراني، فاكتسب الحزب صفة الحزب الجماهيري في سوريا، وامتدت خلاياه إلى العراق ولبنان والأردن. وجاء تأسيس حركة القوميّين العرب في مطلع الخمسينيّات إثر "النّكبة الفلسطينيّة" فرفع مؤسّسوها شعارات الثّأر والفداء.
جاء تأسيس البعث وحركة القوميّين العرب في سياق أحداثٍ سترسم ملامح العالم العربي خلال العقود التّالية، وأوّل هذه الأحداث الجِسام، "نكبة فلسطين" التي طبعت نشاط وشعارات الحركة القوميّة، فأصبح تحرير فلسطين القضيّة القوميّة الأولى.
إخفاق تجربة الوحدة بين مصر وسوريا كان مؤشرًا مبكّرًا إلى إخفاق مشروع الوحدة المُرتجلة
كذلك، فإنّ صعود القوميّة العربيّة قد ترافق مع الانقلابات العسكريّة، وأبرزها الانقلابات التي حصلت في سوريا، والتي عانت من قمعها الأحزاب العقائديّة. لكنّ الانقلاب العسكري في مصر، يوليو/تموز 1952، قد أعطى للقوميّة بُعدًا جديدًا بانضمام مصر إلى تيّار القوميّة العربيّة. وقد دفعت جماهيريّة جمال عبد النّاصر إلى تخطّي الفكرة القوميّة حدودها المشرقيّة، فتمدّد مناصروها في كل البلدان العربيّة. ولا شكّ أنّ الوحدة بين مصر وسوريا قد مثّلت ذروة الآمال العربيّة بالوحدة والتّحرّر، إلّا أنّ إخفاق التّجربة كان مؤشرًا مبكّرًا إلى إخفاق مشروع الوحدة المُرتجلة.
إلّا أنّ القوميّة العربيّة كانت لا تزال تكتسب امتدادًا خصوصًا مع استقلال الجزائر وثورة اليمن، إضافة إلى انخراط حزب البعث في الانقلابات العسكريّة في سوريا والعراق. فهيمن حزب البعث على السّلطة في الدولتَيْن قبل نهاية السّتينيّات، رافعًا شعارات الوحدة والاشتراكيّة وتحرير فلسطين، إلّا أنّ غلبة المصالح السّلطوية قد أدّت إلى صراع بين طرفَيْ البعث، وتنافُر مع مصر الناصريّة، وتغليب سلطة الحزب الواحد على التعدّد الحزبي فضلًا عن التعدّد الدّيني والإثني.
جاءت حرب (1967) والهزيمة المدوّية لتكشف عن المُمارسات الخاطِئة والشّعارات الفارِغة الّتي ارتُكبت باسم القوميّة العربيّة:
- جعل قضية فلسطين على رأس القضايا العربيّة، والتي تحوّلت إلى ذريعة بأيدي الأنظمة التي تدّعي أنها تعمل من أجل هذا الهدف.
قمعت الأنظمة العسكريّة التعدّدية السّياسيّة وحوّلت الديموقراطية إلى طقوسٍ شكليّة
- كشفت الهزيمة عن فراغ شعارات التّسلّح والإنفاق العسكري، فلم تصمد الجيوش سوى ساعات أو أيام قليلة.
- بذريعة التحرّر والاشتراكيّة، قمعت الأنظمة العسكريّة التعدّدية السّياسيّة وحوّلت الديموقراطية إلى طقوسٍ شكليّة مع تشديد الرّقابة على الفكر وتأميم الإعلام وإخراس كل صوت معارض.
إنّ إخفاق أنظمة القوميّة العربيّة، مع استمراها في السّلطة، أدّى إلى تمثُّل المُعارضة بالإسلام المتشدّد الذي أدّى صراعه مع السّلطات القائمة إلى ما يشبه الحروب الأهليّة.
إذا استعرضنا هذه الظّواهر، يمكننا أن نفهم الأسباب التي أدّت إلى تراجُع القوميّة العربيّة، الأمر الذي يدعونا إلى تبنّي فكرٍ يؤمِن بالتعدّدية وتداول السّلطة والانفتاح على العالم.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")