هناك حكومة مؤقّتة قيد العمل تُظهر براغماتيّة في خطواتِها نحو الاستقرار، بينما يقوم السّوريّون بإعادة بناء أمّتهم المُمزّقة. بيْد أنّ الدّولة التي نعنيها بالجديدة، هي الدّولة الوطنيّة الحديثة وليست الدّولة التّقليديّة، البعثيّة، السّلطويّة أو الفئويّة (عصبويّة كانت أم عسكريّة). الأمر الذي يعني التّعويل على دولة تنهض بدور تمنع فيه النّزاعات الأهليّة مثل ليبيا والعراق والسّودان، وتقوم بدور ٳيجابي وطني توحيدي وإدماجي بحالة سوريا المُبعثرة، وذلك يرتبط بقدرتها على تجديد نفسها من الدّاخل وتأمين شرعيّتها السّياسيّة والمدنيّة الفِعليّة.
من وظائف تلك الدّولة الجديدة ٳنجاز عمليّة سياسيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة وثقافيّة في عملية التّوحيد للمجتمع والمجال الوطني، وأساسه توحيد التّراب الوطني، أي الإقليم في تعريفِه القانوني المُعاصر حيث تقوم عليه سيادتها. وتمتنع الوحدة التّرابية بالتّراخي وبسقوط أجزاء من التّراب الوطني تحت قبضة "الذئب الإسرائيلي" المستوطِن فوق الجبل، أو التّوظيف السّياسي الخارجي للنّزاعات الأهليّة، الأمر الذي يهدّد الوحدة الكيانيّة بالانفراط، ويفتح الباب أمام مؤامرات التّقسيم والتّجزئة.
يستحقّ الشّعب السّوري الحصول على الدّعم وأن تُظهر كلّ الدّول التزامها بالاستقرار في سوريا
بعد عقدَيْن من النّضال أطاح السّوريّون بالأسد. انتفضوا للنّضال من أجل حقوقهم، هذه لحظة تتطلّب مشاركة الجميع، وسوريا الحالِمة والمستقرّة قادرة على مُعالجة الكثير من التحدّيات من أزمة اللّاجئين، والإعمار، إلى وقف تجارة المخدّرات الإقليميّة. ويستحقّ الشّعب السّوري الحصول على الدّعم، وأن تُظهر كلّ الدّول التزامها بالاستقرار في سوريا، والنّظر إلى ما حدث باعتباره فرصة حقيقيّة لٳنهاء الكثير من المشاكل التي خلّفها نظام الأسد، واستعادة سوريا دورها الجيوسياسي، وهي قد دفعت ثمنًا باهظًا من دماء شعبها على مدى عقود.
تحتشد هذه التّصوّرات والتّوقّعات القائمة على ألّا تنحدر الأمور ٳلى حالة من الفوضى على غرار ما جرى في ليبيا بعد معمّر القذّافي أو عراق ما بعد صدّام حسين، وهي تتطلّع إلى حماية النّاس لمصالحها ومصالح الدّول الأخرى في المنطقة والعالم.
إنّ أي تصوّرات مُقبلة مُسبقة بشأن سوريا لم تعد قابِلة للتّطبيق، والسّوريّون يتطلّعون إلى المستقبل. العالم الّذي اعترف بشرعيّة الأسد لنصف قرن، يستطيع أن يعترف بشرعيّة القيادة الجديدة، ورفع العقوبات، والاستثمار في إعادة الإعمار وتقديم المساعدات الإنسانية والدّعم النّفسي، ولا بدّ من تعزيز الجهود الدّيبلوماسيّة لإدارة التّوتّرات المستمرّة بين سوريا وجيرانها.
قد يكون التّوحيد الاقتصادي، توحيد السّوق والعُملة والقِيَم، هو من مشمولات الدولة، أهمّ من التّوحيد السّياسي وتأميم السّلطة (سلطة العصبيّات العسكريّة) وإلحاقها بالسّلطة المركزيّة، وتحويل العنف من عنف الفصائل ٳلى عنفٍ شرعي ينتظم استخدامه بموجب قواعد دستوريّة سياسيّة متوافق عليها، وهي القواعد الّتي تقوم عليها دولة الحق والقانون، أي أن تقوم المواطَنة السّوريّة في عمليّة تشكيل لنظام من العلاقات السّياسيّة الجامعة، فتكسر إطار الولاءات التّقليديّة كسبيل إلى إلغاء إنتاج النّزاعات الأهليّة.
المُهم أن يكون السّوريّون على الجانب الصّحيح من تاريخ سوريا الجديدة
بات واضحًا أنّ الرّبيع العربي ليس ربيعًا واحدًا، كما لا تزيّنه باستمرار الانتصارات ويتعرّض لتحوّلات سلبيّة، لكن كان من التّبسيط المُفرِط أيضًا الافتراض أنّ الرّبيع العربي مات للأبد. وكما أنّ أحدًا من المثقّفين العرب لم يتنبّأ بتلك التّحوّلات العربيّة ومفاجآت الثّورات، فإنّه مع عودة الظّاهرة السّوريّة، أصبحت الأمور واقعًا حيًّا وجزءًا لا يتجزّأ من الحياة العربيّة، ومن ٳعادة خلط الأوراق ومراجعة الحسابات، بدءًا بأصحاب البرامج التّغييريّة، وانتهاءً بأولئك الّذين يعملون على إبطاء محرّكات التغيير فإيقافها، ثم الدّفع بها في اتّجاهات جديدة.
وإذا استمرّت الأمور على هذا المنوال، فإنّ ميزان القوى الدّاخلي سيأخذ في الرّجحان لصالح السوريين شيئًا فشيئًا. المُهم أن يكون السّوريّون هذه المرّة على الجانب الصّحيح من تاريخ سوريا الجديدة.
(خاص "عروبة 22")