صحافة

حصاد عام الدماء والدمار 2024

عمرو حمزاوي

المشاركة
حصاد عام الدماء والدمار 2024

ما أن حدثت هجمات "حماس" وأطلقت إسرائيل حربها في 2023، إلا وانفجر برميل بارود الشرق الأوسط مجددا في مركز القلب من صراعاته الإقليمية، فلسطين، ومتجاوزا مساعي المهادنة والانفتاح هنا وعمليات الاحتواء والوساطة والتفاوض هناك.

واليوم، تواجه المنطقة رقعة حروب مباشرة وحروبا بالوكالة متسعة وتنوعا في المتورطين فيها من دول كإسرائيل وإيران وتركيا إلى حركات وميليشيات مسلحة كحماس وحزب الله والحوثيين والفصائل السورية وتعثر متكرر للجهود الدبلوماسية لإنهاء الصراعات وإيقاف الحروب ووضع حد لمعاناة إنسانية صارت فادحة ولكلفة مادية ومعنوية لامست حدود التدمير الشامل والإلغاء الكامل لمقومات الحياة الآمنة.

إزاء كل ذلك ينجرف الشرق الأوسط إلى حافة هاوية تستهلك طاقاته الجماعية وتعبث بما تبقى له من شروط الاستقرار والسلام وفرص التنمية المستدامة وتفرض عليه وضعية أشبه بوضعية حرب استنزاف لا يعلم أحد من جهة متى ستنتهي ولها من جهة أخرى فاعلان إقليميان من بين الدول الكبيرة الست يدفعانها إلى مزيد من التغول والتوحش.

هناك، من جهة، سياسات وممارسات حكومة اليمين في إسرائيل ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو القائمة على إلغاء حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وفي إقامة دولته المستقلة على حدود 4 يونيو 1967، والمعتمدة على توظيف الآلة العسكرية لإعادة احتلال قطاع غزة وإخضاع سكانه ولتمكين المستوطنين من اقتطاع المزيد من أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية، والمتنصلة من حل الدولتين الذي استندت إليه معاهدات أوسلو.

منذ أكتوبر 2023، لم تقتصر سياسات وممارسات اليمين الإسرائيلي على العنف الممنهج ضد الشعب الفلسطيني، بل امتدت إلى عنف مشابه اتجه إلى لبنان الذي استبيحت أرواح مواطنيه وأرضه وسيادته وعصف بأمنه بغية القضاء على حزب الله عسكريا وتنظيميا وماليا وإبعاده عن المناطق الحدودية ومنع السلاح الإيراني من الوصول إليه مجددا. بل أن الضربات الإسرائيلية المتتالية ضد الوجود العسكري الإيراني في الشرق الأوسط وضد المتحالفين معه أسفرت في سوريا، من بين عوامل أخرى، عن سقوط نظام بشار الأسد وسيطرة فصائل مسلحة على أدوات الحكم والنظام العام واستدعت في اليمن دائرة من التصعيد والتصعيد المضاد بين إسرائيل والحوثيين ضحيتها الملاحة الآمنة في البحر الأحمر.

هناك، من جهة أخرى، سياسات وممارسات الجمهورية الإسلامية في إيران والتي استغلت منذ ثمانينيات القرن العشرين مجريات عديد الأحداث في الشرق الأوسط لبناء شبكة من الحكومات والحركات والميليشيات الشيعية المسلحة المتحالفة معها واستخدامها كخط دفاع أول عن أمنها ومصالحها في مواجهة ضغوط وتهديدات الأعداء الإقليميين (عراق صدام حسين في أعقاب الثورة الإيرانية 1979 وحتى الغزو الأمريكي للعراق في 2003، والسعودية في مراحل زمنية متقطعة وبشأن قضايا محددة كأوضاع اليمن، وإسرائيل كمصدر عداء إيديولوجي وسياسي مستدام) والأعداء الدوليين (الولايات المتحدة الأمريكية المصنفة شيطانا أكبر).

عسكريا وماليا وتنظيميا، استثمرت إيران في حزب الله اللبناني (منذ الثمانينيات) والميلشيات الشيعية العراقية (قبل وبعد 2003) وجماعة الحوثي في اليمن (على نحو متصاعد منذ 2011) ونظام بشار الأسد في سوريا (منذ الثمانينيات وحتى سقوطه) وكلفتهم بأدوار متنوعة في بلدانهم وعلى امتداد الإقليم، أدوار تراوحت بين التعبير السياسي عن الشيعة والهيمنة على أدوات الحكم وبين مناوئة إسرائيل وتهديد المصالح الأمريكية.

بل أن إمدادات السلاح والتحويلات المالية والوسائط التكنولوجية القادمة من طهران استطالت خطوطها على خرائط الشرق الأوسط لتصل إلى حماس وفصائل فلسطينية أخرى رفضت من جهتها حل الدولتين والتسويات السياسية وعرفت مقاومة الشعب الفلسطيني كفعل عسكري واستبعدت من قاموس عملها المضامين السلمية لمقاومة الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري (العصيان المدني والمقاطعة والبقاء السلمي على الأرض) وهو ما تواكب مع العنف الممنهج لليمين الإسرائيلي في استباحة أرواح ومقدرات الشعب الفلسطيني وتعريضه لأهوال حروب صغيرة وكبيرة متتالية.

في كافة هذه السياقات، تورطت الجمهورية الإسلامية بسياساتها وممارساتها بين 2011 و2020 في تعريض استقرار وأمن ووحدة بلدان عربية كلبنان والعراق واليمن وسوريا لتحديات كبرى واستباحت عبر شبكتها من الحركات والميليشيات المسلحة سيادتها وأراضيها وقيم العيش المشترك في مجتمعات ذات تعددية مذهبية وعرقية لكي تباعد بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وبين الاعتداء على إيران وسلاحها ومنشآتها الحيوية (نووية ونفطية) ومؤسسات الحكم والأمن فيها.

في كافة هذه السياقات، ودون إغفال لجوهر العداء الإيديولوجي والسياسي بين إيران وإسرائيل واستدامته، لم تكن الجمهورية الإسلامية سوى قوة إقليمية أخرى تجرف الشرق الأوسط إلى هاوية حرب استنزاف واسعة النطاق وطويلة المدى تهدد فرص الأمن والاستقرار.

وبعد مساعي احتواء الصراعات بين 2020 و2023 وما أن وقعت واقعة أكتوبر 2023، إلا وإيران كقوة إقليمية تشترك مع إسرائيل في المغامرة بتوظيف الآلة العسكرية لحسم صراعات لا سبيل لاحتوائها ثم تفكيكها وحلها دون تسويات سياسية. فقد كانت أسلحة طهران، من بين عوامل أخرى، وراء دفع حماس إلى القيام بهجماتها الإرهابية وكانت أيضا وراء هجمات الصواريخ والمسيرات التي حاول من خلالها حزب الله والحوثيون مثلما حاولت الميليشيات الشيعية في العراق قض مضاجع تل أبيب و"إسناد" المقاومة الفلسطينية.

وكانت إيران بدعمها العام للحركات والأحزاب والميليشيات المسلحة بعيدا عن أراضيها تفرغ فرص التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وحل الدولتين من المضمون والفاعلية، وتستعلي على منطق الدولة الوطنية في جوارها العربي وتحيل مؤسسات الحكم والأمن في لبنان والعراق وسوريا واليمن إلى كيانات عاجزة، وتوسع ساحات الحروب المباشرة والحروب بالوكالة المتورطة هي وحلفائها بها في مواجهة إسرائيل.

في كافة هذه السياقات، توافقت طبيعة سياسات وممارسات الجمهورية الإسلامية، وعلى الرغم من لعبة التصعيد المحسوب التي أدارتها طهران، مع جنون اليمين الإسرائيلي المتطرف ورتبت دينامية المواجهة بين الفاعلين الإقليميين الإيراني والإسرائيلي نشوب حرب استنزاف مستمرة إلى اليوم في الشرق الأوسط وصار لها من النتائج المباشرة والتداعيات العامة الكثير والكثير.

فحرب إسرائيل في غزة والحرب بينها وبين حزب الله، وبجانب كلفتها الإنسانية الباهظة والدمار الشامل الذي أسفرت عنه في القطاع وفي المناطق ذات الأغلبية الشيعية في لبنان، قضت على الشق الأكبر من القدرات العسكرية لحماس والفصائل الفلسطينية المتحالفة معها وعلى جزء مؤثر من قدرات حزب الله الصاروخية وسلاحه المتراكم بفعل عقود من الدعم الإيراني. أدت الحرب في غزة ولبنان أيضا إلى تصفية الصفوف القيادية الأولى لحماس وحزب الله وأضعفت إمكانياتهما التنظيمية والسياسية على نحو حتما سيغير من وضعيتهما ودورهما فيما خص قضايا الحكم والإدارة في الأراضي الفلسطينية ولبنان.

كذلك قربت الحرب بين حكومة إسرائيل المكونة من اليمين المتطرف والديني وبين تنفيذ سيناريوهات فرض مناطق عازلة في شمال غزة وفي جنوب لبنان وتهجير السكان منها، والتهديد الممنهج بتهجير واسع النطاق في القطاع وبعمليات عسكرية وأمنية متكررة فيه وفي لبنان، والضغط المستمر في الضفة الغربية والقدس الشرقية بخليط الاحتلال والاستيطان والأبارتيد المعهود بغية خنق الحق الفلسطيني وإسكات الأصوات الإقليمية والعالمية المتضامنة معه.

وفي سياقات الحرب في غزة ولبنان والإضعاف الشديد الذي طال حماس وحزب الله من جرائها ومع تحولها إلى حرب استنزاف إقليمية، وجهت إسرائيل ضربات قاسية لإيران مباشرة ولحلفائها في سوريا والعراق واليمن إن كفعل هجومي أو كرد فعل على هجمات المعسكر الإيراني لترتب، من بين عوامل أخرى، سقوط نظام بشار الأسد وتراجعا ليس بالمحدود في القدرات العسكرية والإمكانيات الاستراتيجية والسياسية لذلك المعسكر الذي تمدد نفوذه بوضوح قبل 2023.

بل أن إسرائيل تحقق لها بسقوط نظام الأسد في خواتيم 2024 مغنما كبيرا تمثل في انكماش دراماتيكي في خرائط النفوذ الإيراني التي اختفت منها سوريا، وغلقت عليها الطرق التي كانت تمر عبر الأراضي السورية لتقديم الدعم العسكري والمالي للحليف الأهم حزب الله اللبناني الذي حتما لن يعود كما كان قبل أكتوبر 2023، وانحسرت ساحاتها على الأقل مؤقتا في أدوار الميليشيات الشيعية في العراق وفي أفعال الحوثيين في اليمن.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن