يُحبّ الحاكم العربي أن يضع مواطنيه بين خيارَيْن "أنا أو الفوْضى"، وبينما يرسّخ لمعادلتِه يجتهد اجتهادًا عظيمًا في بتْر كلّ بديل يخرج عن خيارَيْه الأساسيَّيْن، يبني للفوضى مستقبلها ويعضد لها وجودها... وفي الكثير من الأحيان يرسّخ لها شرعيّتها.
بقيَ حسني مبارك ومعمّر القذّافي وصدّام حسين وعمر البشير وآخرهم بشّار الأسد في الحُكم عقودًا طِوال، لم يُؤمِّنوا لشعوبهم مستقبلًا آمنًا، وهم يظنّون أنّهم يؤمّنون لأنفسِهم هذا المستقبل. تغييب الشّعوب جزء من خطط الاستبداد ليضمن بقاءه ووجوده، لكن الاستبداد لا يبقى، مثله مثل كل الظّواهر تشيخ وتموت، إلا في عالمنا العربي فقط يشيخ استبداد لينموَ غيره، ويتنقّل التّاريخ بين محطّاته حتى غادر أو يكاد زمن الاستبداد الوطني ليغرق في الزّمن الميليشياوي.
يفتح الحاكم العربي الباب لكلّ بديلٍ أسوَد لإرضاء نرجسيّته المُتعطّشة لندَم شعبي على ما يشبه استقرارًا في عهده
يختار الحاكم العربي بديلَه، هو يفضّل الميليشيا دائمًا كبديل عن أي تيّار إصلاحي مدني، يبني سياساته لمحاصَرة السّياسة وخنْق البدائل الآمنة، فيما يفتح الباب لكلّ بديلٍ أسوَد، ربّما ليستمرّ في إرضاء نرجسيّته المُتعطّشة للحظة ندَم شعبي كاذبة على ما يشبه استقرارًا في عهده بالمقارنة بفوضى تأتي بعده.
لا أحد مسؤول عن وجود "الإخوان المسلمين" كبديل وحيد جاهز ومنظّم لوراثة حكْم حسني مبارك بعد 2011 إلّا حسني مبارك نفسه، الذي حاصر السّياسة والسّياسيّين وأدار الأحزاب من المقرّات الأمنيّة وأحبط كلّ تحرّك جادّ لبناء بديلٍ آمن، ليترك فزّاعة "الإخوان" وحدها ظنًّا منه أنّ النّاس ستستمر في تجرّع كؤوسِه حتى لا تذهب للمجهول، لم يظنّ لحظةً أنّ المصريّين سيختارون المجهول يومًا في مقابل الخلاص منه، وحتى لو دفعوا الثّمن لاحقًا.
وفي مصر، لم يستوعب أحد هذا الدّرس، ما زالت صناعة البدائل الآمنة راكدة تمامًا، وما زال التّخويف من المجهول قائمًا.
وفي العراق، جلب صدّام الغُزاة، وترك للاحتلال مهمّة صوْغ مستقبل البلاد وهندسته طائفيًّا، قَتَل البدائل ليبقى الاحتلال بديلًا واحدًا ومحتّمًا. وفي ليبيا، كانت الفوضى هي البديل الوحيد للزّعيم الأوحد وملك ملوك أفريقيا غير المتوّج، 4 عقود من السّلطة لم يَبْنِ فيها "العقيد" نظامًا قادرًا على الانتقال والتّداول الآمن. وما جرى في السّودان بعض من حصاد عمر البشير ونظامه، انقسام للجنوب ومزيد من الانقسام في الشّمال.
لا يمكن الحديث عن عالمٍ عربي مستقرّ وناهض وقادر على مجابهة التّحدّيات من دون أن يُجيبَ حكّامه عن سؤال الخروج
لم يكن بشّار الأسد بدعًا من المُستبدّين العرب، اختار رهانهم وسار على دربهم... "أنا أو الفوضى"، لكنّ تميّزه أنّه بقي لعقدٍ كامل هو والفوضى معًا (بواو وليس أو)، وفي هذا العقد الفائت في حكمه لم يجتهد ليؤمّن للسّوريّين انتقالًا آمنًا وملائمًا. اختار أن يكون السّلاح هو الاختيار، والرّابح في لعبة السّلاح هو البديل الحتمي.
الميليشيا اختيار المستبدّين لأنّها في الأصل زرْع سياساتهم وحصاد انحيازاتهم.
لننظر إلى عقودٍ طويلة جدًّا قضاها هؤلاء في سدّة الحُكم، فيما أُنفقت، وأي أفكار رسّخت، وأي مشروع وطني تبنّت، وأي نظام سياسي بنَت، سوى الشّخصانيّة التي اختزلت الدّولة في الشّخص، فإذا سقط الشّخص سقطت الدّولة، وبالتّالي تكون محاولة التّباكي على السّاقطين، ولو من باب أنّهم السّيء الأنسب من الأسوأ، تتجاهل أنّ الأسوأ من إنتاج السّيء ومن صُنعِه، ولولا سوء السّيّء واستبداده وعدم اكتراثه بمستقبل الأمّة ما ظهر الأسْوأ.
لا يمكن الحديث عن عالمٍ عربي مستقرّ وناهض وقادر على التّعامل مع العالم ومجابهة التّحدّيات حوله، من دون أن يُجيبَ حكّامه عن سؤال الخروج قبل الإجابة عن سؤال التطلّعات.
لا حلّ أمام العالم العربي إلّا بِبناء نظام قادر على إدارة التّنوع والانتقال والتّداول وبناء البدائل
يأتي الحاكم في عالمنا العربي وارثًا السّلطة من عائلته البيولوجيّة، أو عائلته المؤسّسيّة، أو مغامرته الانقلابيّة، يحاول إقناعنا بأنّه استثناء ولا يشبه غيره، لكنّه حين يُطالَب بالإجابة على سؤال خروجه من السّلطة يصبح نسخةً من غيره أو أسوأ، لا يُطيق أن نسألَه متى ستُغادر وكيف؟ يُفضّل أن يَترك الإجابة للمجهول كسابقيه ويجتهد في صِناعة هذا المجهول وجعله حتميًّا ولا بديل غيره. يُحبّ أن تغرَقَ بلادُه بعدَه في الفوضى ربّما ليُرسّخ في أذهان النّاس حنينًا زائفًا لزمنٍ مهّد الطّريق لهذه الفوضى ودفع إليها بجدّية وإصرار.
لا حلّ أمام العالم العربي إلّا بِطَيّ صفحة هذا النّموذج من الحُكّام والأنظمة، وبناء نموذج جديد قادر على مجابهة الأنظمة الميليشياويّة وثقافاتها وانحيازاتها، نظام قادر على إدارة التّنوع والانتقال والتّداول وبناء البدائل، نظام يعرف كلّ رأس فيه متى وكيف سيصير سابقًا، قبل أن يدخل من الباب. ويعرف حدود حقوقه وواجباته وصلاحيّاته والتزاماته عندما يدخل... وكل من يؤخّر بناء هذا النظام خائن لهذه الأمّة ومستقبل أجيالها.
(خاص "عروبة 22")