الفساد وسبل الإصلاح

منظومة الدّيكتاتور

الدّيكتاتوريّة شكلٌ من أشكال الحُكم، تتمرْكز وتتركّز بمقتضاها السّلطة، كلّ السّلطة، بين يدَيْ فردٍ واحد، تندَغِم في شخصِه، كلّ مكوّنات الأرض والشّعب والسّيادة والثّروة والحُكم.

منظومة الدّيكتاتور

الدّيكتاتور، بهذا الموجب، هو الفرْد الذي يَثوي مباشرةً خلفَ حُكْمٍ مُطلَق، لا يقيّده دستور أو قانون أو أعراف أو تقاليد. يُملي على الآخرين، فيُنفّذون من دون تساؤُل، يُصدر الأوامر والأحكام، فيطبّقها الآخرون من دون بحثٍ عن مسوّغات، ينطق عن الهوى، فيَلقى نُطقه التّصفيق والتّهليل، وهو الذي يُقرّر ويُطاع، ليس بحكم "سدادٍ في الرّأي"، بل لكون شخصه مكمن عِصمة، وعلى سلوكِه وممارساتِه "ختْم إلهي" لا يدركه إلّا مُريدوه... وكلّ الشعب مُريده.

الدّيكتاتور يُنشِئ من حولِه بُنًى وهياكل ومؤسّسات تعمَد فقط إلى تصريفِ أفكارِه وقراراتِه وأوامرِه

لمّا كان الأمر كذلك، فإنّ الدّيكتاتور يشيع منظومتَه بكلّ مفاصل الدّولة والشّعب، يكون هو لا غيره، أفرادًا أو جماعات، المَركز والمِحور، لا بلّ قلّ القُطب الذي تدور حوله كلّ الأَجرام، وبكلّ الجاذبيّات المُتاحَة.

ومع أنّ الدّيكتاتور لا يستطيع النّهوض وحده بكلّ أعباء منظومتِه، فإنه يُنشِئ من حولِه بُنًى وهياكل ومؤسّسات، لا تقوم مقام الواسطة بينه وبين الشّعب، بل تعمَد فقط إلى تصريفِ أفكارِه وقراراتِه وأوامرِه. كلّ المؤسّسات الّتي تُقام، لا تُقام إلّا لخدمة مشروعِه، حتّى وإنْ بدَت للمرء محايِدة أو مُنزّهة عن الشّبهات.

وعلى هذا الأساس، فإنّ أكبر وأقوى سنَد يرتَكز إليْه الدّيكتاتور إنّما هو "الحزب الواحِد"، أداته القُصوى لـ"تأطير" الجماهير وتطويعها وتوجيهها حيثُما يرضى: إنّها الأداة التي تسهر على ترويج إيديولوجيا النّظام والمنظومة، والوسيلة المباشرة، بالمُدن والقُرى والمداشِر، التي تشيع معتقدات الحزب و"قِيَمه". الكلّ منضوٍ تحت لواء الحزب، مدنيّين وعسكريّين، عمّالًا وفلّاحين، لا تمايز بينهم إلّا بما يقدمونه للحزب.

أمّا ثاني أكبر وأقوى أداة بيد الدّيكتاتور، فتَكمُن في وسائِل الإعلام، المكتوب منها كما المسموع كما المرئي، تُوظَّف مجتمعة، كلّ وِفق طبيعتِها ومدى ما قد تبلغه من جماهير، توظَّف لتمرير إيديولوجيا النّظام بالكلمة والصّوت والصّورة، آناء اللّيل وأطراف النّهار.

إنّ وسائل الإعلام المُختلفة لا تقلّ أهميةً وفعلًا، بالقياس إلى دور الحزب الحاكم، إنّها سلطة الدّيكتاتور النّاعمة واللّيّنة، المواكِبة حتمًا للسّلطة الخشِنَة والصّلدة، التي غالبًا ما تتكفّل بها الأجهزة الأمنيّة، التي تُحصي على الشّعب حركاتِه وسكناتِه، حتّى يبدو المجتمع ولكأن الكلّ مع الكلّ ضدّ الكلّ، والكلّ يخشى الكلّ من الكلّ.

حالة تسلّط تعيشها الشّعوب العربيّة في ظلّ نُظُم حكمٍ فرديّة أو شبه فرديّة، مدنيّة وعسكريّة، مركزيّة ومغلقة

أمّا ثالث أقوى أداة بين يدَيْ الدّيكتاتور، فهي المجموعات الاقتصاديّة والتّجاريّة والماليّة الّتي تُراكم الثّروة، لكنّها تضعها رهن إشارة الدّيكتاتور، يَغرُف منها ما يشاء ومتى عنَّ له ذلك: إنّها لا تعمل وتتربّح إلّا بفضلِه، وقد تَكسد بضاعتُها وتُفلِس مشاريعها إنْ هي فكّرت، لمجرّد التّفكير، في التّظلّم أو التّشكّي، أو في تطلّعٍ ما بتمايُز مصالحِها عن مصالح الدّيكتاتور.

وأمّا المثقّفون، فهم عَضَد المنظومة الرّمزية التي تَنبَني عليها إيديولوجيا نظام الدّيكتاتور: هم الذين يُزيّنون له الخطاب، يُسوّغون له الممارسَة، يبْنون لمنظومتِه بالحجّة والدّليل والتّنظير، ولا يتوانون في تبرير أخطائِه، فما بالك خطاياه.

هي إذَن منظومة متَكامِلة ومتراصّة وفعّالة، لا بل قُل وناجعة، لا يستطيع أحد، من داخلِها أو من الخارج، أن يزايِد على تناسقيّتِها كثيرًا، أو يقوّضها، أو يأتي بنقيضٍ لها من أمامِها أو من خلفِها.

ثم هي منظومة تشترك فيها كلّ النّظُم، الجمهوريّ منها كما الملكيّ على حدّ سواء، لا بل إنّ الأمر أشدّ وأفظع بالحالة الثّانية، بحكم ادّعاء الأسرة المالكة للقداسة، وتنطّعها باحتكامِها لحصانة مُطلقة، لا يمكن الطّعن فيها أو التّشكيك فيها، فما بالك المُزايدة عليها.

إنّ سياق حديثِنا هنا إنّما مؤدّاه حالة التسلّط التي تعيشها الشّعوب العربيّة في ظلّ نُظُم حكمٍ فرديّة أو شبه فرديّة، مدنيّة وعسكريّة، مركزيّة ومغلقة.

لقد نجحت، مجتمعة، في استِنبات منظومةٍ مادّيّة ورمزيّة، صالَت وجالَت حتّى أدغمت الدّولة والمجتمع من بين أضلُعِها، فباتت المنظومة، كلّ المنظومة، متمحوِرة حولَها بحكم الإيديولوجيا التي تروّجها، وأيضًا بحكمِ نجاحِها في خلْق السُّبُل والمسالك لإعادة إنتاج الإيديولوجيا عينها، بلبوسٍ جديد أو بمظهرٍ مختلف.

عندما يسقُط الديكتاتور والديكتاتورية تتهاوى بجريرتِهما الأوطان

ثمّ نجحَت في بسْطِ هيمنتها على وسائل الإعلام ومرافق الثّقافة، حتى باتت إيديولوجيا "الحزب الواحد" هي إيديولوجيا البلد قاطبةً بالكلمة والصّوت والصّورة. ثم نجحَت في استِنبات لوبيّات فساد في الاقتصاد والمال والأعمال، حتى اندغم الاقتصاد الوطني في صُلبِها، وباتت قطاعات بِرُمَّتها في ملْك هذا، ومشاريع واسعة في مُلكيّة ذاك: زواج بين السّلطة والسّوق، لا قيمة فيه للإنتاج أو لتَدوير تراكُم الثّروة.

تعيش الدّيكتاتوريّة ويعيش في ظلِّها الدّيكتاتور. لكنّهما عندما يسقُطان، بفعل انتفاضة داخليّة أو استهداف خارجي، تتهاوى بجريرتِهما الأوطان، فَيَتيه الشّعب وتكثر الاصطِفافات، وتتعذّر مآلات ما بعد حكم الدّيكتاتور.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن