في مقتضيات تحويل الأزمات في المشرق العربي إلى فرص مستجدة (2/2)

إنّ طريق الحلّ يبدأ بإصلاح مؤسّسات الحكم في هذه الدّول العربيّة، والعمل على استعادة قرارها الحر وسلطتها الواحدة والموحَّدة على كل أراضيها ومرافقها وتعزيز هيبتها، كما والمبادرة إلى توسيع قاعدتها الشّعبيّة، وتعزيز تعبيرها عن المصلحة العامة التي تتجاوز الانحيازات الإثنيّة والطائفيّة، ورفع كفاءة مؤسّساتها، وزيادة قدرتها على تبنّي سياسات عامّة رشيدة تستجيب لاحتياجات مواطنيها.

إنّ التقدُّم المنشود على صعيد إنقاذ هذه الدول العربية الثلاث ينبغي أن يَلْحظَ أُموراً متوازيةً ومتساوقة:

أولاً:  العمل المثابر من أجل بناء حكم صالح ورشيد يتحقق من خلال النمو والازدهار الوطني المتوازن، والعمل على تنمية المجتمع واقتصاده عبر تعزيز دور الدولة الوطنية العادلة والقادرة في إدارتها للقضايا الوطنية، والسياسية والداخلية والتنموية. هذا فضلاً عن التمسُّك بنهج الإصلاح الحقيقي، فعلاً وليس قولاً فقط، حيث إنّ عَوامِلَ الوهْن والتصدُّع الذي أصاب الدولة الوطنية العربية في هذه البلدان ليست خارجية فحسب، بل هي في جزء ليس بالقليل منها ناجمةٌ عن استعصاءٍ مزمن على الإصلاح لدى دول المشرق العربي.

الإصلاح الذي يكون من أولوياته تعزيز مفهوم العدالة، ولاسيما العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والذي هو الطريق الصحيح الوحيد الواجب سلوكه لتعزيز الاستقرار الاجتماعي والسياسي وإحلال السلام الداخلي في هذه الدول.

للمسارعة إلى الضغط على إسرائيل تمهيدًا للعودة إلى اعتماد المبادرة العربية للسلام التي أُقرّت في قمّة بيروت

ثانياً: العمل على تعزيز الالتزام بقواعد الحوكمة وإعادة الاعتبار لمعايير الكفاءة والجدارة والمحاسبة المؤسساتية على أساس الأداء، وفي إطار وممارساتٍ ديمقراطيةٍ حقيقية.

ثالثاً: العمل على تعزيز العلاقات الاقتصادية العربية البينية القائمة على التكامل الاقتصادي، والتنسيق الحيوي فيما بينها، ومع الدول العربية الأخرى لرفع نسب النمو وتعزيز التنمية المناطقية.

رابعاً: الإدراك أنّ المشروع الإسرائيلي يقوم على افتعال واستدامة التجزئة والتقسيم في المنطقة العربية، والإمعان في إدخال المجتمعات العربية في صراعات بينية، كما والاستمرار في مشاريعه التوسعية في غزة والضفة الغربية.

هذا ما يقتضي، وكمرحلة أولى، المسارعة العربية إلى الضغط لوقف التوغل الإسرائيلي في سوريا، وإجبار حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، على التراجع فوراً إلى ما بعد حدود اتفاقية فض الاشتباك مع سوريا، والضغط على إسرائيل للانسحاب الفوري من لبنان والوقف الفوري لارتكاب المجازر في غزة والضفة الغربية في فلسطين، وذلك تمهيداً للعودة إلى اعتماد المبادرة العربية للسلام التي أقرت في قمة بيروت العربية في العام 2002.

خامساً: العمل على استعادة السَّكينة في العمل والسلوك الديني وفي التديُّن الإسلامي في دول المشرق العربي. ذلك أنّ التطرُّف، من هنا وهناك وهنالك، قد بلغَ أزْمتَه الكبرى.. وأَزَّمَنا في الوقت ذاته! ولذلك فإنّ الحاجة قد باتت ملحةً، وإلى حدٍّ كبير، من أجل الولوج الشجاع والرصين نحو الإصلاح الديني من طريق النهوض الفكري والحيلولة دون نشوء أجيال جديدة على التطرفِ ونشر العنفِ في العالم. وهذا ما يتطلب تعزيز المؤسسات الدينية المستنيرة والمنفتحة، والعاملة على تجديد الخطاب الديني الذي يحضُّ على العلم والتعلم المستمر، ويؤكّد على ثقافة العمل والإنتاج، والعيش معاً بسلام، متنوّعين ومتساوين، ويشجع على التفكير النقدي في مجتمعاتنا العربية من أجل تغيير الرؤية إلى العالم لدى أجيالنا القادمة.

سادساً: بناءُ العلاقات الصحيَّة والطبيعيَّة بين دولنا العربية ومع العالم من حولنا. ذلك أنَّ السلامَ والاستقرارَ والتنمية هي أمور لا يمكِن أن تتمَّ داخل أسوارٍ مغلقة في عالمٍ مُعَوْلم، ولا يمكن أن تقوم على الخوف لدينا من العالم ولا على تخويف العالم منا. نحن جزءٌ من حركة العالم والعصر، وبالطبع نريد التأثير فيه إيجاباً للاستجابة لمصالحنا، لكنّ التأثير يكون بالمشاركة الفعالة وليس بالانعزال او التفرد أو المجابهة، إذْ يجب أن لا نخافَ من العالم ولا نعملَ على إخافته.

نهوض سوريا وازدهارها يكون له إشعاعه الإيجابي أيضًا في كل اتجاه عربي

بهذا، تستطيع الدولة المدنية العربية في المشرق العربي أن تتصالح مع مجتمعاتها، وأن تتقدّم على مسارات التكامل الاقتصادي في ما بينها، ومع باقي الدول العربية، فتزداد قوّتها على مواجهة التّحديات المرتبطة بالتحوّلات العالميّة الكبرى، لأنّ الدّولة القويّة لا بُد أن تستند إلى مجتمع قوي متآلف مع حركة ودينامية العصر.

أما في ما خصّ الوضع السوري تحديداً، فإنّ ما حصل في سوريا مؤخراً، وهي البلد العربي، الذي يُشكّلُ صلة الوصل البرية الوحيدة بين لبنان والدول العربية والعالم، وهو الذي يمثل حجر الزاوية في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم العربي، لهو أمر مهم لسوريا وللعالم العربي، حيث إنّه ما أن تتداعى على سوريا الأزْمات حتى تؤدي إلى أن تستشري الآثار السلبية في كل اتجاه في العالم العربي. كذلك، فإنّ نهوض سوريا وازدهارها يكون له إشعاعه الإيجابي أيضاً في كل اتجاه عربي. ولذلك، فإنّ ما طرأ من سقوطٍ لحكم آل الأسد، شكَّل أمراً في منتهى الأهمية لما ألحقه هذا النظام البائد من أضرار قاتلة وعميقة ليس في سوريا فقط، بل وبالمنطقة العربية وبالعرب أجمعين.

هناك حاجة إلى مبادرة عربية سريعة وحماية المشروع السوري العربي الجديد بعيدًا عن محاولات الاختطاف الأيديولوجي

إنَّ هذا التغيير يمكن أن يشكِّل فرصةً تاريخيةً وغير مسبوقة من أجل إعادة بناء مشروع الدولة العربية السورية الجديدة التي تحترم قواعد المواطنة، والتي تضم وتحتضن جميع مكوناتها وتحترم التعدّد والتنوع، وتعزز المشاركة الوطنية، والتي هي عناصرَ وطنية ينبغي أن تشكّل مصدر غنىً لها.

لذلك، فإنّ هناك حاجةً ماسةً إلى مبادرة عربية سريعة لاحتضان سورية والسوريين، وحماية المشروع السوري العربي الجديد، بعيداً عن محاولات الاختطاف الأيديولوجي. وهذا يعني أنّه ينبغي على الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية ودول الخليج العربي والأردن، المبادرة بشكلٍ ثنائي أو متعدِّد مباشر، وكذلك في إطار جامعة الدول العربية التواصل مع المسؤولين في سورية الجديدة، ورسم قواعد التعامل الجديد معها، وتقديم المساعدة الصحيحة والسريعة لإقدارها على سلوك الطريق التي تؤدي إلى اعتماد أسلوب الدولة المدنية السورية الحديثة، الحريصة على احتضان ومشاركة جميع مكوناتها الوطنية، وبما يمكنها من استعادة دورها القوي والفاعل في محيطها العربي. وأيضاً لمساعدتها وبالتعاون مع المجتمع الدولي من أجل إيقاف العدوان الإجرامي والاحتلالي الذي ترتكبه إسرائيل ضد سوريا، والسعي من أجل رفع العقوبات المفروضة عليها وفق صيغ قانونية نظامية تضمن عدم تكرار ما حدث. وكذلك في العمل على إعادة بناء وتعزيز علاقات سوريا العربية، لتتمكن من استعادة دورها الفاعل والمتكامل مع الأشقاء العرب في علاقات قائمة على الاحترام المتبادل، وفي تعزيز علاقات سوريا مع المجتمع الدولي.

أعرفُ أنَّ هذه المسارات ليس بالأمر السَّهل سلوكُها أو التقدّم على مسالكها، ولكنَّها ممكنة ان أردنا ذلك حقاً.

هناك من يقول أنه لا رياح مؤاتية لمن لا أشرعة له. والحقيقة أنّ هناك فرصاً حقيقيةً تلوح، ولا شكّ في ذلك. فهل سنحرص على أن تتوفر لدينا الأشرعة اللازمة!!

التردُّدَ أو الفشل في ذلك إمعانٌ في تغييب الدور العربي المطلوبِ حضورُهُ الآنَ الآنَ في هذه الفرصة المتاحة وليس غداً؛ وكما يقول الشاعر:

"إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة      /     فإنّ فساد الرأي أن تترددا".


لقراءة الجزء الأول

يتم التصفح الآن