اقتصاد ومال

العاصمة الإداريّة.. ماذا فعلت بالاقتصاد المصري إيجابًا وسلبًا؟

أثار الظّهور العلني الأوّل للقصر الرّئاسي في العاصِمة الإداريّة الجديدة، الكثير من الجدَل بشأنِ حاجةِ مصر لكلّ تلك القصور الرّئاسيّة التي تملكُ منها أضعافَ ما تملكُه الولايات المتّحدة. وعندما أعلن الرّئيس أن الحيّ الحكومي في مجملهِ مُؤجّر من "شركة العاصمة الإداريّة" بـ10 مليارات جنيه سنويًّا، بدأ جدلٌ آخر حول منطقِ تأجير المَقرّات الحُكوميّة، وحول "شركة العاصمة الإداريّة" عينها، خصوصًا بعد أن ذكرَ الرّئيس أنّ لديها ودائع في البنوك بقيمة 80 مليار جنيه، ولها حقوق قيمتُها 160 مليار جنيه لدى المُطوّرين العِقاريّين الذين اشتروا منها الأرض. فما هي "شركة العاصمة الإداريّة" وكيف تمّ تكوينها؟.

العاصمة الإداريّة.. ماذا فعلت بالاقتصاد المصري إيجابًا وسلبًا؟

تمّ عقد اتفاق المساهِمين في 19/1/2016 لتأسيس شركة المَشروع كشركةٍ مساهِمةٍ مصريّةٍ خاضِعة لأحكام قانون الاستثمار الرّقم 8 لسنة 1997 وتعديلاته (اكتتاب مُغْلَق)، على أن يكونَ رأسمال شركة المشروع المُرخّص لها 204 مليارات جنيه، ويكون رأس المال المصدر 20408 ملايين جنيه مقسمةً على 204080000 سهم بقيمة إسميّة 100 جنيه للسّهم.

وتوزعت الحصص في رأس المال المصدر على النحو التالي: 21.6% لجهاز "مشروعات أراضي القوّات المسلّحة" وهي حصّة عينيّة تُعادِل قيمة 10500 فدّان أي 44.1 مليون متر مربع وهي دفعة أولى من إجماليّ مساحة المشروع البالغة 166645 فدّانًا من الأراضي الواقعة جنوب طريق القاهرة - السّويس وشرق الطّريق الدّائري الإقليمي. بينما تمّ تخصيص 17571 فدّانًا لـ"تجمّع الشّيخ محمّد بن زايد العمراني" تُعادل 44.1 مليون سهم قيمتها 4410 ملايين جنيه بواقع 100 جنيه للمتر المربع. وبلغت حصّة جهاز "مشروعات الخدمة الوطنيّة للقوّات المسلّحة" في المشروع 29.4% تُعادل 59.98 مليون سهم قيمتها 5998 مليون جنيه دُفِعَت نقدًا.

وبلغت حصّة "هيئة المجتمعات العمرانيّة الجديدة" 100 مليون سهم قيمتها 10 مليارات جنيه، تعادل 49% من الرّأسمال المصدر للمشروع، ممّا يعني أنّ الجهات التّابعة لوزارة الدّفاع تتمتّع بالأغلبيّة المُطلقة.

مشروع العاصمة الإدارية اجتذب المدّخرات للاستثمار الأسهل حتى ولو لم يكن الأجْدَى بالنَسبة للاقتصاد المصري

وقد صدر بشأنها قرار رئيس الجمهوريّة الرّقم 57 لعام 2016 باعتبارها من المجتمعات العمرانيّة الجديدة، لتستفيد من كل الامتيازات والخدمات التي تقدّمها الدّولة المَدنيّة لتِلك المجتمعات. وبحدٍ أدنى فإنّ كلّ البنيَة الأساسيّة الخارجيّة التي تربطُها بباقي مصر، تمّ تمويلُها من خلال الموازنة العامّة للدّولة، وهي تكلفة باهظة بالتّأكيد.

وكان "جهاز أراضي القوّات المسلّحة" قد تم تأسيسه عام 1981 بالقرار الجمهوري الرّقم 531 لعام 1981. وكان دورُه هو بيع الأراضي والعقارات الّتي تُخْليها القوّات المسلّحة، على أن يتولّى الجهاز تجهيز وإعداد مُدُنٍ عسكريّة بديلة، ويمكن أن يُستخدم 20% من حصيلة البيْع للتّسليح. وكان ذلك القرار بديلًا عن الوضع القديم، حيث تُسلّم الأرض للدّولة المدنيّة وتحصل المؤسّسة على الأراضي الّتي تحتاجها، ويتمّ تمويل بناء القواعد والمدن العسكريّة من خلال مخصّصات في الموازنة العامّة للدّولة.

كان الأوْلى بالحكومة أن تدعم صناعات للإحلال محل الواردات لتحسين الميزان التّجاري بدل الاستغراق بالاستثمار العقاري

وتمّ تعديل قرار التّأسيس بالقرار 446 لعام 2015 من خلال تعديل المادة 1 فقرة 3 لتصبح كالتالي: "كما يتولّى الجهاز تجهيز وإعداد مدنٍ ومناطق عسكريّة بديلة للمناطق الّتي يتم إخلاؤها والقيام بجميع الخدمات والأنشطة التي من شأنِها تحقيق أهدافه وتنمية موارده، وله في سبيل ذلك تأسيس الشّركات بكافّة صورِها سواء بمفرده أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني والأجنبي".

أمّا "جهاز مشروعات الخدمة الوطنيّة" فقد تأسّس بقرار رئيس الجمهورية بالقانون الرّقم 32 لعام 1979 بإنشاء جهاز مشروعات الخدمة الوطنيّة الذي تنبثق منه الشّركات التّابعة للمؤسّسة العسكريّة والتي تعمل في الاقتصاد المدني. وإيراداته وأرباحه تخصّ المؤسّسة العسكريّة ولا تدخل الموازنة العامّة للدّولة.

وتتمتّع شركات الجهاز بالإعفاء من ضرائب الأرباح التّجاريّة والصّناعيّة بشكل تمييزي عن شركات القطاع الخاصّ والقطاع العامّ المدني، فضلًا عن العديد من عمليات الإسناد المباشر للأعمال العامّة.

طاقة الاقتصاد التي استنزفتها العاصمة الإداريّة وستستنزفها أكثر في مرحلتها الثّانية

لكل اقتصاد طاقة تحمّل تتمثّل في مجموع المدّخرات العامّة والخاصّة المُتاحة لتمويل الاستثمارات. وإذا تمّ اجتذاب تلك المدّخرات نحو قطاعٍ ما، فإنّ ذلك يعني تلقائيًّا حرمان باقي القطاعات منها، وهذا ما فعله مشروع العاصمة الإدارية في الاقتصاد المصري، فقد اجتذب المدّخرات للاستثمار الأسهل حتى ولو لم يكن الأجْدَى بالنَسبة للاقتصاد المصري.

عائد بيع أرض الدّولة التي تمّ منحُها لجهازِ أراضي القوّات المسلّحة لا يدخل في إيرادات الموازنة العامّة للدّولة

صحيح أنّ المشروع خلق عشرات الآلاف من فُرص العمل المُباشرة وغير المُباشرة، لكنّ هذا الاستثمار إجمالًا، صبّ في النّهاية في مخزونٍ عقاري مُجمَّد لا يُنْتِجُ ما تحتاجُه مصر من سِلَعٍ بديلة للواردات أو قابلة للتّصدير. كما أنّ الجانبَ الأعظم منه غير مستخدمٍ، وتمّ شراؤه كمخزنٍ للقيمة في عصر التّضخّم الكبير، وليس للاستعمال الفعلي، حيث لم يسكنْها حتى الآن سوى 12 ألف نسمة وفقًا لرئيس الشّركة. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ مرحلةً ثانية على مساحةٍ تُعادل أربعة أضعاف المرحلة الأولى ستبدأ في الرّبع الثّاني من العام المقبل!

وكان الأوْلى بالحكومة أن تدعم تأسيس مدنٍ وتجمّعاتٍ صغيرة في مناطق تركّز الخامات المعدنيّة والحجريّة والزّراعيّة لبناء صناعاتٍ تصديريّة، وصناعات للإحلال محلّ الواردات لتحسين الميزان التّجاري، بدلًا من الاستغراق في الاستثمار العقاري في بلدٍ مُتخمٍ بفائضٍ عقاريٍ بلغ وفقًا لآخر تعدادٍ عام، نحو مليونَيْ مبنى متعدّد الشُقق وكامل التّشطيب وغير مأهول.

ماذا لو ذهب عائد بيع أرض الدّولة للموازنة العامّة للدّولة؟

يبدو العائد الهائل لبيع أرض الدّولة في العاصمة الإداريّة الآن ومستقبلًا، محلّ تساؤلٍ موضوعي، فتلك هي أرض الدّولة التي تمّ منحُها لجهازِ أراضي القوّات المسلّحة والتي سيدخل عائدُ بيعِها لشركة العاصمة الإداريّة التي يُشارِك فيها الجهاز ولا يدخل في النّهاية في إيرادات الموازنة العامّة للدّولة. ولنا أن نتصوّر حال الموازنة العامّة للدّولة لو دخلت تلك الإيرادات فيها وهو الأمر الطّبيعي، ولو تمّ احترام قاعدة وِحدة الموازنة العامّة للدّولة ودخول كل الإيرادات العامّة والفوائض المُحوّلة من كل الشّركات والهيئات العامّة سواء كانت مدنيّة أو عسكريّة فيها. إنّ هذا الأمر هو أحد المداخل الرّئيسيّة لمعالجة أزمة العجز الكبير في الموازنة العامّة للدّولة والّذي يهدّد استدامتَها. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن