ثقافة

مُمكناتُ العُروبة اليوم

نتحدّثُ اليومَ عن مُمكناتِ العُروبةِ لا للتّباكي على مفهومٍ اندثَر أو على ربطٍ لامنطقي بين العُروبَةِ وأي نظامٍ سياسي ساقِط أو سيسقُط، بل لأنّنا شهِدنا استغلال الأنظمة السّياسيّة لهذه الفكرةِ في سبيل المَكْرِ الذي يؤمِّن الهَيمنةَ على مجالِ الفكرةِ وتأثيرِها، ويؤمّن التسلّط على وجدانِ النّاس بفرضِ نماذجَ قهريَّةٍ لتطبيقِها.

مُمكناتُ العُروبة اليوم

ما حدث في التّاريخ السّياسي الحديث هو رَبْطُ الهُويَّةِ بالمشروعِ السّياسي للحزبِ الحاكِم المُسَيْطِر أو الحزبِ الطّائفي المُهيْمن، كأنّ مُمَكِّنَات الهُويَّة الاجتماعيّة عندنا لا تتولّد إلّا من خلالِ الإيديولوجيّات المُتصاعدَة. والرّبط بيْن الهُويّة والإيديولوجيا يَحجبُ إمكانَ التّفكُّرِ الواجبِ في صناعةِ الهُويّة الحقيقيّة، لأنّه يقدّم دومًا النّماذج الجاهزة للانخراط الجَماعي في الهُويّة.

التّساؤلُ المشروعُ اليوم يبدأ من لحظةٍ مريرةٍ في المَعيشِ لكنّها ضروريّة للتأمُّل، وهي لحظةُ الوعيِ الفاشِل. وما نقصدُه بهذا الوعيِ هو أنّ التّفكيرَ في النّهوض والإصلاح منذ مئة عام ونيّف في دُنيا العرب قَرَن بيْن نُموِّ الأفكار ونُموِّ المُؤيّدين لها في المُجتمع، فكان مفهومُ تشكيلِ الأحزاب السّياسيّة يقتضي تَبنّي إيديولوجيا مُعيّنة توصِل إلى السّلطة. وهذا ما يؤدّي إلى الاستغلالِ الخَبيثِ للأفكارِ لتَحقيقِ طموحاتٍ فرديّةٍ أو فئويّةٍ أو زُمْرِيَّةٍ أو طائفيَّة في الوصول إلى موقعِ القَرار.

العروبةُ اليوم لا تصنعها الأحزاب الرَّثَّّة ولا يصنعُها أشخاص وزعماء وعساكر

لذا علينا اليْوم تَثْوِيرِ الفِّكْر ورَفْضِ الإجاباتِ المَوجودة وإعلانِ الأسئلةِ المَحظورة. إنّ تمكينَ السّؤال من العودةِ هو البِناء الإبْداعي للفَرد، أي الانشغال بمفهومِ الإنسانِ من جديد.

لِنَسْأَلْ، مَثَلًا؛ هل يُعقَل أن تكونَ عروبةُ "البعث" وميشيل عفلق في شعار "أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة" هي ما مارسَه حُكْمُ "البعث" وحزبِه؟ هل اقتضَى تَمْكينُ العروبةِ في نفوس النّاس من هذه الأنظمةِ المُجرمة بناء المُعتقلات والسّجون وأجهزة المُخابرات وتكريس الطّائفيّة وتعزيز الحِقْدِ والاستهانة بالإنسان وتعذيبه وقمعه وإذلاله؟ هل العروبة تبريزٌ للعسْكرِ وإظهارُ استعلائِهم والسّماح بأن يَتشكَّل منْهم طبقة من السُرَّاقِ وقُطَّاعِ الطّرق والمُجرمين القَتَلَة؟ الأسئلة تطول أمام ما جرى ويجري...

إنّ الثّوراتِ التي يقوم بها العَرب اليوم لهَا مشروعيَّةٌ أخلاقيّة شديدةُ الحضورِ في الوعيِ الرّاهن، فهي مواجهةٌ صريحةٌ للنِّفاق والكذبِ بتمثُّلِ الحضورِ الفاعلِ في وجهِ الحاكمِ المُتغطرِس.

ولما كنَّا نسألُ عن المُمكناتِ، فلا بدّ لنا من تأكيدِ بعضِ الأمور، وأهمّها الجرأةُ على الاعترافِ بالواقع الذي تمنحُ القُدرة على مواكبتِه بالأفكار. لذلك إنّ معاودةَ طرحِ مفهومِ العُروبةِ لا تتمُّ بالتّعصُّبِ لآليّات تجريبِها الفاشِلة سياسيًّا، فالعروبةُ اليوم لا تصنعها الأحزاب الرَّثَّّة التي جعلتَها بالأمس إيديولوجيا مُفارِقة لوِجدان النّاس، ولا يصنعُها أشخاص وزعماء وعساكر، بل كلّ ما تحتاجه العروبةُ هو تجريبُ ذخْرِها المَعنَوي في واقعِها الحيّ. الواقعُ هو الّذي يصْقلُ المفهومَ، فلا يحوزُه شخصٌ أو فئة أو رأي، بل يشتركُ في عيشِه وتقديرِه كلّ الفاعِلين.

العروبةُ اليْوم يجب أن تَهْجُرَ عروبةَ الأمس بشجاعةٍ وثِقة، والعربُ لا يمكنُهم أن يكونوا عربًا إذا بقي المَاضي هو المجالُ لابتداءِ الفهمِ. عليهِم الوعي بضرورةِ التّعلُّم الآني الذي يجعلهم في وضعيّة اختبارٍ لذواتِهم في العالم. وهذا ما يتمُّ بفلسفةِ التّحرُّر، وعدم الاكتفاء بالمفاهيمِ المُستوردةِ من خارج يومِهم؛ فلا التّراث وحده يقدرُ على إيفاءِ اللّحظةِ الرّاهنةِ حقَّها بالفهمِ ولا الآخر الشّريك في الإنْسانيّة يقدرُ أن يكون النّموذج التّطبيقي المِثالي دومًا. ما علينا فِعله هو تمكينُ الفهمِ فيعترف الإنسان بذاتِه مَصدرًا لفهمِ كلّ ما يُخزِّنُه من آراء ليبنيَ مقامَه الرّاهن.

إنّ تشكيلَ رؤيةٍ للعالم هو الذي يُحدِّدُ الحاجةَ إلى الذّوات الفاهِمة. والعنايةُ بإقامةِ مؤسّساتِ تنميةٍ اجتماعيّةٍ فكريّة وثقافيّة، والاهتمامُ بمناهجِ التّعليم والتّربية واللّغة العربيّة، هي المجالُ الحقيقي لصِناعة الذّواتِ الفاعِلة. لا يمكنُ التّفريطُ بإحداثِ الخَطْوِ الجديدِ ضمنَ مؤسّساتٍ مُنتجةٍ لعلمٍ ووعيٍ وأدواتٍ تقوم عليها الأوطان والدّول.

إنّ صناعةَ المَدَنِيَّة الجديدةِ هي الفعلُ الحَضاري الواجبُ تمكينه في المُجتمع، بحيث تتشكَّلُ عندئذٍ، أمام أعيُننا، مجموعةٌ من القضايا والإشكاليّات التي تفترضُ الاشتغال الحرّ. أمّا تكرارُ الخِطاباتِ التي تهاجمُ بعضَها فهو عملُ الضُّعفاء غيْر القادرين على مُجاوزةِ الأزمَة، كأن نجدَ من يطالبُ بالعلْمنةِ في مواجهة الأسْلمةِ أو العكس، من دونِ الاستناد إلى أي دراسةٍ لمُمَكِّنَاتِ التّفكير في إرساءِ المفاهيمِ انطلاقًا من حيثيَّتِها الاجتماعيّة.

مُمكناتُ العروبة هي مُمكناتُ الحرّيّة في المُجتمع

مشهديّة الصّراع الاجتماعي السّياسي الرّاهن تتطلَّبُ تواضُعًا معرِفيًّا جديدًا على توصيفِ المشهد. وفي كلّ مرّة نُحاكم نجاحَ الثّورات أو فشلِها ابتداءً بفاعليّة الإسلام السّياسي والحَركاتِ المُتطرّفة، فإننا نَختزِلُ المشهدَ بسذاجةٍ قاتلَة. هذه الحركاتُ الإسلاميّة هي الحالُ النّتيجة، التي لم يكن بالإمكانِ تَفادي تشكُّلِها النُّكوصِي في المُجتمع؛ إذ مقابل قمعِ الأنظمةِ التي ادَّعت حملَ الأفكارِ النّهضويّة والتّقدّميّة النّاجعة، فإنّ خطابًا جاهزًا، كالدّين الشّعبي التّراثي السّهل على أفهام النّاس العاديّين للرَّدِّ على النّفاقِ الذي حدثَ، سيكون جديرًا بإبطال الحاجةِ إلى الوعيِ الرّاهن، وبإظهارِ الخِطاب السَّلفي أنّه مجالُ الصِّدق والنّقاء والخيرِ العامّ.

وعندما يعيشُ المفكّرُ بفكرهِ، بلا خوْفٍ، تُصبح المَعارفُ قضايا عامّة، وليست أوْهامًا خاصّة. فمُمكناتُ العروبةِ، هي مُمكناتُ الحرّيّة في المُجتمع، لذا إنّ ادّعاء الهُويَّة قبل التّأسيس العِلمي لها في الواقع، هو العيْش الكاذب الذي لا يُمَكِّنُ من بناءِ الهُويَّة المُنتجةِ إنسانيًّا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن