مشاعر الحزن طبيعيّة في الشارع العربي، لكن على الرَّغم من مرارة اللحظة وثقل تجلّيات الواقع، إلّا أنّ هناك إمكانية للبحث عن أملٍ في ظلّ هذا الرّكام والتخبّط والانكسارات المتتالية، فالخبر الجيّد أنّ هناك مئات الملايين من العرب على قيْد الحياة، ما يعني أنّ المواجهة لم تنتهِ، بل إنّ اللحظة القاسية يمكن أن تكون بدايةً ضاغطةً للبحث عن حلٍّ ومخرجٍ من المشهد الراهن الذي لا يقتصر على الهجمة الأميركية - الإسرائيلية على المنطقة، بل يتضمّن الأوضاع داخل المجتمعات العربية ذاتِها، التي تعاني من تمزّقٍ داخليّ حادّ وغياب الهدف ووحدة الصّف وصعود أفكار شعبويّة وطائفيّة ومذهبيّة وعِرقيّة تساعد على المزيد من التقسيم وإضعاف الشارع العربي.
من المتوقّع أن تُوَلِّدَ حالة المهانة العربية أمام الاستباحة الأميركية للمنطقة موجة غضب تستخدم العنف تحت مسمّى "الجهاد"، وتستهدف القريب قبل البعيد ما يزيد المشهد خطورةً، فهذه الموجة المتوقّعة ستؤدّي إلى إضاعة المزيد من الوقت بعيدًا عن الوصول إلى حلّ حقيقي ينتشل المنطقة من الهوّة التي سقطت فيها، فالعصبية والمراهَقة والرّدود الحماسية القائمة على الفتوّة الشبابية والقراءات الساذجة للتاريخ لا مكان لها في عصر حروب تُدار بأحدث منتجات العِلم في العالم، فالصراع هنا يجب أن يُدار بفهمٍ حقيقيّ، بكلّ مرارة وقسوة الواقعية، لما يجري في العالم لنعرف كيف يمكن أن نتغيّر لنواكِب اللحظة ولا نكرّر أخطاء التاريخ.
لن تعود للبلاد العربية حصانتها إلا باستدعاء الموقف الواحد
في تاريخ العرب لحظات كثيرة ضائعة كانت كفيلة بتغيير الواقع، يمكن الاستفادة منها هنا للتنبيه لكي لا تتكرّر الأخطاء في زمن تبعات الخطأ فيه قاصمة، فصلاح الدين الأيوبي طلب من سلطان الموحّدين حاكم بلاد المغارب كلّها التعاون لمواجهة الصليبيين، إلّا أنّ حاكِم الموحّدين رفض إمداد الأيوبيين بأسطوله القوي؛ ربما لانشغاله بمحاربة الصليبيين في الأندلس، ولو تمّ التحالف لكان تغيّر وجه التاريخ وسرّع من نهاية الاستيطان الصليبي في بلاد الشام، الذي استمرّ بعد صلاح الدين لقرنٍ كاملٍ تقريبًا، وفي العصر الحديث ضيّعت أنظمة عربية فرصة التخلّص من الكيان الصهيوني في مهدِه خلال حرب 1948، بسبب الخيانات وضيق الأفق والبحث عن مصالح ذاتية.
طاقة الغضب وبعض أخطاء التاريخ يمكن معالجتها بالبحث العقلاني عن أمل، لا ننسى أنّ تأسيس القومية العربية في العصر الحديث، جاء في سياقٍ كانت الشعوب العربية خاضعةً للاحتلال الأوروبي، وقتها لم يستسلم العرب وبحثوا عن حلٍّ فكانت العروبة أحد هذه الحلول، نعم استخدم بعضُ الأنظمة العروبة كمطيّة لتوليد أنظمة مستبدّة وفاسدة وشعاراتية، إلّا أنّ هذا لا يعني فشل الفكرة، بل يعني الحاجة إلى إعادة تأسيس، فكما خرج جيل الاستعمار بفكرة العروبة، يحتاج الجيل الحالي إلى الخروج بفكرة العروبة المُطوّرة في زمنٍ صعبٍ لوقف لحظة الاستباحة الحالية.
المعركة الوجودية هي معركة علم والبحث عن التكامل الاقتصادي وتأسيس الخطاب العروبي على الشعوب لا الأنظمة
ربما تكون الحكمة التي أكّدتها هذه الأيام الصعبة وأظهرتها لكلّ ذي عينيْن هي أنّ النجاة جماعية، ولا مفرّ من العمل المشترك، إذ لن تعود للبلاد العربية حصانتها التي توقف الاستباحة إلا باستدعاء الموقف الواحد، تجاوز الواقع مؤسّسات عربية من نوعية جامعة الدول العربية التي وصلت إلى حالة موتٍ مخزية، ولذا يجب أن يتجاوز الفكر العروبي هذه المساحة ويسعى لتأسيس خطاب جديد يستفيد من دروس التاريخ وحقائق الواقع والنظر إلى مستقبل تنعم فيه الشعوب العربية باستقلالها وحياة كريمة وكرامة إنسانية.
يعني هذا تكثيف البحث عن المشترك بين شعوب المنطقة، ونبذ الطائفية والمذهبية المعطّلة، والتشديد على أنّ المعركة الوجودية في أساسها هي معركة علم، لا شعوذة وانتظار بلا عمل للانتصار الإلهي، والبحث عن التكامل الاقتصادي المدعوم بروابط ثقافية واجتماعية طبيعية، والتمسّك بتأسيس الخطاب العروبي على الشعوب لا الأنظمة، وصناعة وعي حقيقي يُعيد تعريف العدو بدايةً من الإدارة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي وليس انتهاءً بالأنظمة العميلة، وقتها سنرى إشراقة النّور في نهاية النفق.
(خاص "عروبة 22")