بانقضاء الشهر الأول بعد تحرير سوريا من عصابة الأسد، أصبح بإمكاننا وضع جردة حساب لأداء الإدارة الجديدة في دمشق بالنظر إلى كثرة التحديات وتشابكها وتعقيدها. إن إنجاز التحرير أو إسقاط النظام قد منح السلطة الثورية القائمة رصيداً شعبياً كبيراً حتى بين البيئات الاجتماعية التي كانت مؤيدة للنظام المخلوع أو تلك الصامتة. رأينا ذلك في احتفالات السوريين في مختلف المدن السورية وفي المهاجر، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام. لكنه رصيد غير ثابت، بل هو قابل للتآكل بعد التحول "من الثورة إلى الدولة" بكلمات أحمد الشرع.
كذلك حصلت السلطة الجديدة على مباركة واعتراف متفاوتين من دول أخرى، عربية وإقليمية وغربية وأممية، وإن كان بعضها مقترناً بمطالب، بعض منها لمصلحة سوريا نفسها. وذلك على رغم توجس تلك الدول من "هيئة تحرير الشام" التي ما زالت على قوائم المنظمات الإرهابية. هذا أيضاً رصيد خارجي غير ثابت، قابل للتآكل وفقاً لما ستفعله السلطة القائمة في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة.
يمكن القول إذن إن سلطة "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع هي في وضع مريح نسبياً في الداخل والخارج، من شأنه أن يسهّل عليها المضي قدماً في ترتيب أولوياتها. أما غير المريح فهو محدودية قدرات السلطة في ضبط الأمن وتأمين الحد الأدنى من الخدمات الأساسية والتوفيق بين المطالب الفئوية المتباينة، بل المتعارضة أحياناً، بين مختلف تلك الفئات.
وأول ما يجب لفت انتباه السلطة إليه هو إصرارها على التفرد باتخاذ القرارات كتشكيل الحكومة المؤقتة والتعيينات الإدارية من لون واحد، وتجاهل مطلب المشاركة في تحمل المسؤولية، مع العلم أنه مطلب عام في الداخل والخارج. بدلاً من الكلام "المطمئن" الذي يدور في العموميات، يحتاج السوريون إلى إجراءات مطمئنة، وشفافية في برنامج عمل السلطة وخضوعها لمبادئ ومعايير معلنة يمكن صياغتها في مبادئ دستورية مؤقتة غير قابلة للتأويل والالتفاف عليها.
وفي الخانة الإيجابية لجردة حساب الشهر الأول يمكن الحديث عن السلوك المنضبط عموماً للذراع المسلحة للسلطة، إدارة العمليات العسكرية والأمن العام، بصورة مقبولة إلى الآن، بعيداً عن السلوك الانتقامي أو استباحة المؤسسات العامة، على رغم كثرة "التجاوزات الفردية" التي من شأن عدم ضبطها أن تتسبب في كوارث على المجتمع وعلى السلطة نفسها. أما الحملة الأمنية التي بدأتها تلك القوات في حمص ودمشق وحلب ومناطق الساحل، فقد تخللتها بعض التجاوزات أيضاً، ولا نعرف بالمقابل حجم "إنجازها" من المقبوض عليهم من "مطلوبين"، يُقصد بهم ضباط أو شبيحة من عناصر النظام المخلوع الذين رفضوا تسليم أسلحتهم وتسوية أوضاعهم. ومهما كان الأمر فثمة تعتيم على أسماء الموقوفين أو أعدادهم أو الجرائم المنسوبة إليهم.
الأمر الذي يدعو للتوجس. ففي غياب الشفافية لا يمكن التأكد مما إذا لم يتم توقيف كثيرين بناء على مجرد شبهة أو وشاية. وبخاصة أن كبار مجرمي النظام ما زالوا طلقاء، إما أنهم هربوا خارج الحدود أو ما زالوا متوارين عن الأنظار على الأراضي السورية. وكان من غرائب ما حدث على هذا الصعيد تسوية وضع اللواء طلال مخلوف الذي شغل منصب قائد الحرس الجمهوري سابقاً، وهو التشكيل العسكري النخبوي الذي ارتكب فظاعات بحق السكان حيثما حل، وكان قد أمر جنوده بإطلاق النار على متظاهرين سلميين في بدايات الثورة الشعبية.
لا يكفي التذرع بأن من شأن تسريب معلومات عن الحملة العسكرية ضد الفلول أن يضر بها، ذلك أن التكتم المحاط بعمليات التوقيف وتسوية الوضع على السواء قد يتيح المجال للجهاز الأمني بارتكاب جرائم التعذيب بحق الموقوفين، ويشكل "تدريباً" بشعاً على استمرار ذلك في المراحل القادمة، وهو ما لا يريده السوريون.
خارجياً رفعت الإدارة الأمريكية بعض العقوبات المفروضة على سوريا بصورة جزئية، وهو ما قد يساعد على زيادة المساعدات الإسعافية التي يمكن أن تقدمها بعض الدول فتخفف من ضغط غياب الخدمات، فيما يمكن اعتباره إنجازاً للحركة الدبلوماسية النشطة التي بدأتها السلطة الجديدة. لكنه أيضاً سيكون محدود الأثر ما لم تتقدم السلطة ببرنامج طوارئ واضح وسريع على هذا الصعيد من شأن نجاحه أن يشجع على تدفق المزيد من المساعدات أو تمهد الطريق أمام مشاريع استثمارية لن تتحول إلى واقع قبل تأسيس بيئة قانونية مشجعة عليها.
لكن أهم ما يعيب أداء السلطة هو غموض توجهاتها بشأن المرحلة الانتقالية التي من المفترض أن تبدأ بعد أقل من شهرين، في الأول من آذار كما هو معلن. ففكرة المؤتمر الوطني الذي من المفترض أن يقرر شكل النظام السياسي وتنبثق منه حكومة انتقالية، تتعرض من الآن للتشكيك والانتقاد للسبب نفسه المتمثل في تفرد السلطة باختيار أعضائه وفي تصوره القائم على رؤية للمجتمع السوري على أساس "مكونات" أهلية أو جهوية، بعيداً عن التمثيلات السياسية.
كذلك ثمة رفض واسع لـ"سلق" هذا المؤتمر بسرعة، وفرض مخرجاته كأمر واقع، بهدف الحصول على شرعية ستكون مشكوكاً في أمرها ما لم تعلن معايير واضحة تتمتع بقبول عام لاختيار أعضاء المؤتمر، تلبي تطلعات السوريين إلى أوسع مشاركة ممكنة في عملية تأسيس الدولة الجديدة وتتويج ذلك بدستور يليق بتضحياتهم الكبيرة.
وفي ظني أن كل يوم يمر بلا إنجازات ملموسة بهذا الاتجاه سيؤدي إلى تراجع في الشرعية الثورية للسلطة الحالية بفعل تراجع آمال السوريين. تحتاج السلطة القائمة إلى مستشارين سياسيين وإداريين واقتصاديين وفي كافة الاختصاصات يساعدونها في تلمس الطريق بعيداً عن أخطاء التجريب والتفرد، وللتحضير لمؤتمر تأسيسي بلا تسرع وصولاً إلى دستور دائم وانتخابات شفافة يليها قيام حكم رشيد يحقق الاستقرار. كل هذا يحتاج إلى وقت على ألا يتم هدر أي يوم في التجريب والخطأ.
(القدس العربي)