بصمات

العلاقات اللّبنانيّة – السّوريّة: الاقتصاد والسّياسة (2/2)

على الرَّغْمِ مِن إقامةِ دولتَيْن إلّا أنّ السّلطات الانتدابيّة كانت تُعيِّن مندوبًا ساميًا واحِدًا لكِلا البلديْن. وكانت تنظرُ إلى البَلديْن كمساحةٍ اقتصاديّة واحدَة. ولذلك أنشأَت "بنك سوريا ولبنان الكبير" عام 1924، الذي بدّلت اسمَه إلى "بنك سوريا ولبنان" عام 1939، وكان انتقالُ الأفرادِ والبَضائعِ يتّم من دون عوائِق أو إجراءات. النّظام الاقتصادي الحرّ هو المعمول به في البلدَيْن. وقد شهِدت سوريا بروزَ رأسماليّةٍ تجاريّةٍ وصناعيّةٍ واعِدة، في الوقتِ الذي ازدهرت فيه الخَدمات السّياحيّة والمَصرَفيَّة والتّربويَّة في لبنان.

العلاقات اللّبنانيّة – السّوريّة: الاقتصاد والسّياسة (2/2)

كان لحرْب فلسطين وقيام كِيان إسرائيل أثرٌ متفاوتٌ على كلّ من لبنان وسوريا، فإذا كان لبنان قد استطاع أنْ يستقطبَ بعْضَ المَصالحِ التي تَعطَّلت في فلسطين المحتلّة، فإنّ سوريا شَهِدَت ثلاثة انقلاباتٍ عسكريّة عام 1949، ووَقَعَت تحت حكم أديب الشّيشكلي الذي حلّ الأحزاب وقيَّد الصَحافةَ، واتّخذ خطواتٍ منها توزيع أراضي الدّولة على الفلّاحين، ومشروع مرفأ اللّاذقية، كما اهتمّ بزيادة ميزانيّة الجيشِ وتعزيزِ قدراتِه. وأعلن الشّيشكلي نفسه رئيسًا للجمهوريّة عام 1953، وشهدَ عهدُه اضطراباتٍ سياسيّة واعتقالاتٍ لرجال السّياسةِ من كل الاتّجاهات، حتّى سقوطِه عام 1954 وفَرارِه إلى بيروت.

أَحَدُ أبرزِ الشّخصيّات السّياسيّة الأرستُقراطيّ المَنْبِت خالد العظْم والذي لُقِّبَ بـ"المليونير الأحمر" للصّلاتِ التي عقدَها مع الاتّحاد السّوفياتي، كان ليبيراليًّا وعمِل في العديدِ من الحُكوماتِ التي ترأّسها من بداية الأربعينيّات وحتّى بدايةِ الستينيّات، والذي سعى إلى تنميةِ الاقتصادِ بإقامة العديدِ من المشاريعِ الإِنمائيّة فضلًا عن إصلاحِ النّقد وحمايةِ الاقتصاد.

أحد القراراتِ التي اتُّخِذَت في عهدِه هو مرسوم القَطيعةِ الاقتصاديّة في 14 مارس/آذار 1950، والذي تضمّن إلغاء الاتّحادِ الجُمركي بيْن البلديْن وإقامةَ مراكز جُمركيّة على الحُدود، ومنعَ السّوريّين من زيارةِ لبنان إلا بعد الحُصول على إِذْنٍ مُسْبَقٍ، وعدم إخراجِ أكثر من خمسمائة ليرة للفرْد. وقد هدفَ هذا المَرسوم إلى حمايةِ الإنتاجِ المحلّي السّوري من تدفّقِ السِّلع المُنافِسة من لبنان إلى سوريا.

وعلى الرّغم من أنّ هذا الإجراء لم يُؤَثِّرْ في الأوضاعِ الاقتصاديّةِ في لبنان، الذي كان يشهدُ ازدهارًا خلال سنوات الخمسينيّات، في الوقت الذي كانت سوريا تشهَدُ حراكًا سياسيًّا ونشاطًا مُعارِضًا شاركت فيه الأحزابُ العَقائديّة والتّقليديّة على السّواء. كما كانت تشهدُ اضطرابات بين الاتّجاهات الحزبيّة العَقائديّة إضافةً إلى الضّغوط التي تتعرّض لها سوريا وخصوصًا بعد تأسيس "حلف بغداد" في فبراير/شباط 1955، والذي كان يهدفُ إلى وقف المدّ الشّيوعي، وضمّ الحلفُ كلًّا من العراق وإيران وتركيا وباكستان وبريطانيا. الأمر الذي أدّى بالسّياسيّين والعسكريّين السّوريّين إلى طلبِ الوِحدة مع مصر بعد صُعودِ زعامةِ جمال عبد النّاصر الذي خرج منتصرًا بعد العدوانِ الثّلاثِي 1956، وقد اُعلنت الوحدة في 22 فبراير/شباط 1958، وبدأت الاضطرابات ضدّ حُكْمِ الرّئيس كميل شمعون (المُتعاطِف مع حلْف بغداد) في مايو/أيار من السَّنَةِ عينِها لحملِه على الاستقالة، وتدفّق السّلاح من سوريا إلى الأحزابِ المعارِضة. إلّا أنّ الانقلابَ العَسكري في العراق في 14 يوليو/تمّوز 1958، أدّى إلى انفراطِ حلفِ بغداد وإلى الإسراعِ بانتخابِ رئيس جمهوريّةٍ في لبنان.

انقلاب حافظ الأسد في 12 نوفمبر 1970 أدخلَ العلاقةَ اللبنانيّة - السّوريّة في حقبةٍ ستستمرّ لمدّة 54 سنة

وتميّزت العلاقاتُ اللّبنانيّة - السّوريّة في ظلّ سنوات الوِحدة بالهدوءِ والاستقرار، وليس أدلّ على ذلك من اللّقاء الذي تمّ بيْن الرئيسَيْن جمال عبد النّاصر وفؤاد شهاب في 25 مارس/آذار 1959، في الخَيْمَةِ الشّهيرة التي أقيمت عنْد الحدودِ بيْن البلدَيْن. وقد رَمَزَ مكانُ اللقاءِ إلى احترامِ استقلالِ لبنان وسيادتِه.

وشَهِدَ لبنان خلال عهد الرّئيس شهاب ازدهارًا اقتصاديًّا مَلحوظًا وبناءَ مؤسّسات الدّولة كما هو معروف، إلّا أنّ سوريا في سنوات الوِحدة (1958- 1961) عَرَفَت حُكْمَ الأمنِ بعد حلّ الأحزاب. وأدّى تأميمُ الصّناعات والمَصارف والشّركات الاقتصاديّة إلى هروب الرّساميل إلى لبنان وبداية إجراءات التّحوّل إلى الاقتصاد الاشْتِراكِي، والإصلاحِ الزّراعي، أي مصادرة المُلكيّات الزّراعيّة الكُبرى، الذي تفاقم خلال السّنوات اللّاحقة.

كان التّأميم الذي حصل في يوليو/تمّوز 1961، من الأسبابِ المباشرةِ لانقلابِ 28 سبتمبر/أيلول الذي أدّى إلى الانفصالِ وانفراطِ الوِحدة المصريّة - السّوريّة.

شهدت سوريا في عقد السّتّينيّات صعودَ "حزب البعث" إلى السّلطة في 8 مارس/آذار 1963، وسلسلةً من الانقلاباتِ بيْن أطراف حزبِ البعث، مع ما رافق ذلك من اضطرابٍ سياسيٍ وأمنيٍ وإجراءاتِ التّعسف الذي أدّى إلى تدهورٍ في الحياة الاقتصاديّة وهجرة العَمالة السّوريّة إلى لبنان التي كانت أعدادُها تتزايدُ سنةً بعد سنة. وبعد عام 1967، وانطلاق المقاومة الفلسطينيّة أصبح انتقال السّلاح عبْر الحدود أمرًا يوميًّا، ودعمت القِيادةُ البَعثيّةُ ما سمّي آنذاك ثورةَ الفلّاحين في عكّار، وهو شكلٌ من أشكالِ الضّغط على الحُكومة اللّبنانيّة. إلّا أنّ الانقلابَ الذي قاده وزير الدّفاع حافظ الأسد على رفاقِه في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، أدخلَ العلاقةَ اللبنانيّة - السّوريّة في حقبةٍ ستستمرّ في عهدَيْ الأسد الأب والابن لمدّة 54 سنة.

كلّ خطوة في طريقِ بناء سوريا حديثة سترتدُّ ايجابًا على لبنان

لن ندْخلَ هنا في استعراضِ شكلِ وطبيعةِ السّياسةِ السّوريّة تجاه لبنان، والتي يمكنُ تلخيصها بالتّدخل في كل مفاصل الحياة السّياسيّة والاقتصاديّة والأحزاب والطّوائف، والتي تقوم على استِتْبَاع السّياسيّين والإشرافِ المباشرِ بعد اتّفاق الطّائف على الانتخاباتِ النّيابيّة والرّئاسيّة وتشكيلِ الحكومات...

من المُبَكِّرِ الآن التّحدّث عن مستقبلِ العلاقاتِ بين البلدَيْن. ولكنّ الأمرَ المُلِحّ هو إعادة بناءِ سوريا المُهدّمة، التي دُمِّرَت مُدُنُها وقُراها ودُمِّرَ اقتصادُها. إنّ إعادةَ الاعمارِ ينبغي أن تشملَ الدّستورَ والسّياسةَ والتّربيةَ والاجتماع. وكلّ خطوة في طريقِ بناء سوريا حديثة سترتدُّ ايجابًا على لبنان، الذي بإمكانِه أن يُسْهِمَ بدورِه في إعمارِ سوريا، والأملَ هو أن تقوم بين البلديْن علاقاتٌ مبنيّة على احترامِ السّيادة والقانون وحُسْنِ الجِوار.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن