عالميًّا، لا عربيًّا (فالإجابةُ العَربيَّة مَعروفَة ومَحفوظَة ومُوجِعَة)، ربَّما كان السُّؤالُ الأوَّلُ، والأبرزُ هو سؤالُ الدِّيموقراطيَّةِ، التي أحْسَبُ أنَّها باتَت تُواجِهُ (تَعريفًا ومعاييرَ ومَفهومًا سِياسيًّا) امتحانًا صَعبًا، وأسئلةً غيْرَ مسبوقةٍ منذُ عصْر التَّنويرِ، أو على الأقلّ منذ اندِحار النَّازِيَّة، وانتهاءِ الحربِ الكَوْنِيَّةِ الثَّانِيَة.
شَرْقًا وغَرْبًا وشَمَالًا وجَنُوبًا، تأرجحَ ميزانُ الدِّيموقراطيَّةِ بعنفٍ في العامِ الذي تَرَكَنَا، سلبًا وإيجابًا ليتركَ وراءَه السُّؤال، الذي قد يبدو نَظريًّا مُلِحًّا بِلا إِجابَة.
بعيدًا عمّا جرَى ويَجْرِي في عَالمِنا العَربي، الذي يدفعُ؛ وَهنًا وخِزْيًا فاتورةَ عقودٍ من "الاستِبدادِ"، فربَّما كانَ الحدثُ الأبرزُ بيْن عاميْن هو عودةُ السِّمْسَارِ المُهَرِّجِ، بشُوفِينيَّتِهِ؛ "أميركا أوَّلًا"، وفَاشِيَّتِه الرَّافضَةِ لكلِّ آخر. لم يَتوقَّعْ المُتفائِلون عودةَ ترامب، ولكن ها هوَ عائِد "عبْر بَوّابَةٍ ديمُوقْراطيَّةٍ" سَمَحَت له بأن يَجْمَعَ كلِّ السُّلطاتِ واقعيًّا في يديْه، بعد أن نجحَ حِزبُه في الاستِحواذِ على المَجلسَيْن التَّشريعِيَيْن في الدَّولة الأكبر والأقوى في عالمِنا المُعاصِر.
إلى أين ستأخذُ التْرامبيَّة عالمَنا المُنهك بالحُروب العديدة؟
هِيَ إذن "ثُلاثِيَّةٌ" جمهوريةٌ حَاكِمَةٌ، تَكمُن "التْرامْبيّة"، لا المُؤَسَّسِيَّة في كَواليسِها، كثقافةٍ، أو "مرض"، ويُطِلُّ برأسِه بين الفَيْنَةِ والأخرى، كعرضٍ من أعْراضِ هذا المَرَض الملياردير؛ الذي لا يُمكنُ تَوقُّعُ سُلوكِه "إيلون ماسك"؛ صديق الرَّئيس ومموله ومنافسه في التَّصريحاتِ المُثيرةِ للجَدَل "والقلق". الرَّجُلُ لم يَتردَّدْ في التَّدخُّلِ عَلنًا (بلا أي ديبْلومَاسيَّة تَستَوجبُها علاقتُه بالرَّئيس) في الانتخاباتِ "الألمانيَّة"، أو في الدَّعوةِ لِلإطاحةِ برئيسِ الوُزراء البَريطاني، أو في التَّعريضِ برئيسِ الوزراء الكَندِي الذي اعترضَ على اعتزام ترامب ضمَّ كندا "هكذا" لتُصْبِحَ الوِلايَة الأميركيَّة الحَادِيَة والخَمْسِين.
ما هو مستقبلُ "الدِّيموقراطيَّة" الأميركيَّة؟ وإلى أين ستأخذُ التْرامبيَّة؛ نَهجًا، وسُلوكًا، وحماقةً، عالمَنا المُنهك بالحُروبِ العَديدةِ الصَّغيرة؟ وهلْ هناكَ حاجةٌ لأن يُعيدَ الأمِيركيّون النَّظَرَ في نِظامِهم الانتِخابِي بعد 250 عامًا من الاستِقلال؟
وما هو مستقبلُ الصَّحافةِ العَريقةِ زَمَنَ تْرامب (2)؟ وإلى أيْ مدَى يُمكنُنا أن نَتجاهَلَ أنَّ الـ"واشنطن بوست"، التي واجَهَت الرَّئيس "جونسون" والبنتاغون أيام فيتنام، ثُمَّ أَسْقَطَت ريتشارد نيكسون بنَشْرِهَا فَضيحةِ ووترغيت (1968) قرَّرَت تَغييرَ سِياسَتِها التَّحريريَّة، ولو جُزئيًّا خِشيَةَ "البلدوزر" العَائِد إلى البيتِ الأبيَض؟ هذا بعضٌ من أسْئلةِ الدِّيموقراطيَّةِ الصَّعبةِ في عامٍ جديد.
الدَّرْس الذي لا يريدُ لنَا مُستبدّونَا أن نَتَعَلَّمَه: "أخطاء الدّيموقراطيَّة لا يصحِّحُها غير الدّيموقراطيَّة"
على روزنامةِ عامٍ انقضى، وعلى الجَانبِ الآخر من الأطْلنْطِي، الذي يَشهدُ منذُ سنواتٍ علاماتٍ وَاضحَةً لصعودٍ "ديموقْراطيٍ" لتَيَّاراتِ اليَمينِ المُتطرِّف، المُعادِي بانحِيازَاتِه لِلمَعْنَى الحَقيقِي "للدِّيموقراطيَّة". لمْ يَكُنْ غَريبًا أن يَلْحَقَ الوَباءُ مَهْدَ الحُرِّيَاتِ الغَربيَّةِ عيْنِه (فرنسا فولتير)، فرَأيْنا في يونيو/حزيران صعودًا لافتًا لحزب "التَّجمُّع الوطني" (اليَمينِي المُتطرِّف)، لمْ يُوقِفْهُ إلَّا استنفار الفَرنْسِيّين للدِّفَاعِ عن ديموقراطيَّتِهم، ليَقلِبوا المُعادلةَ في الانتخاباتِ التي جرى تَنظيمُها بعد شهرٍ واحد.
يُعَلِّمُنَا الفَرنسيّون الدَّرْسَ الذي لا يريدُ لنَا مُستبدّونَا كارهو الدِّيموقْراطيَّةِ أن نَتَعَلَّمَه: "أخطاء الدِّيموقراطيَّة لا يصحِّحُها غيْر الدِّيموقراطيَّة ذاتها". وهو الدَّرسُ عينُه الَذي لقَّنَتْهُ الدِّيموقراطيَّةُ للرَّئيس الفرنسي يوم حاولَ الالتفافَ عليْها، فكانَ أنْ أسقَطَ البَرلمانُ "حُكومَةَ الرَّئيس" في سابقةٍ هي الأولَى من سِتَّةِ عُقود.
ما فعله الفَرنسيّون (في مواجهةِ الرَّئيس) دِفاعًا عن ديموقراطيَّتِهم، فَعَلَهُ الكوريّون (الجَنوبيّون) أيضًا في مُواجَهةِ رئيسٍ كانت الرِّياحُ الآتيَةُ من "الشَّمال" قد أصَابتْه بعَدوَى الاستِبدادِ فأصدرَ قرارًا سُرعانَ ما دفعَ ثَمنَه، ليسَ فقط مَنصبَه، بل وربَّما أيضًا بمثولِه أمام المَحكمة.
اللّافتُ في العَامِ المُنقضِي أنَّه، وعلى الرَّغم مِمَّا تُواجِهُه الدِّيموقْراطيَّات العَتيدَة، والغَنِيَّة من "أسئلةٍ ديموقراطيَّةٍ"، يُذَكِّرُنَا بَعضُها بما حَدَثَ في "الرايخستاغ" ثلاثينيَّات القرنِ الماضي، نَجَحَت "ديموقراطيَّة الشَّارِع"، عبر آليَّاتِها الاحتِجاجيَّة المَعروفَة في أن تأخذ شَابًّا سِنغاليًّا مُعارِضًا كانَ قد خَرجَ لتوِّه من السِّجنِ إلى كُرسِي الرِّئَاسَة. كما نَجَحَت في الإطاحةِ بالشَّيْخَة حَسينة؛ رئيسة وزراء بنغلاديش، على الرَّغم مِن التَّاريخِ المُشَرِّفِ لأسْرتِها، بعد عشرين عامًا من حُكْمٍ "قَمْعِيّ" لدولةٍ هي من بيْن الأفْقَرِ في عالمِنا هذا.
على هامش "السُّؤال الدِّيموقراطِي" في عامٍ مَضَى، ماتَ المُعارضُ الرّوسي أليكسي نافالني في سِجْنِه "البوتيني"، في فبراير/شباط من العام الذي انْقَضَى، وخَرجََ جوليان أسانج مُؤَسِّسُ "ويكيليكس"، التي طَرَحَت السُّؤالَ الأكبَر حول حُرِّيَة التَّعبير، من سجنِه البَريطاني في يونيو/حزيران من العام عينِه، واعْتقلَ الفَرنسيّون بعد ذلكَ بشَهْرَيْن بافيل دوروف؛ مُؤَسِّسُ "تيليغرام" لأسبابٍ تتعلّقُ بالإِشْكاليَّة "الدِّيموقراطيَّة" عينها: أين تقفُ حرِّيَة الرَّأي والتَّعبير، وتَداوُل المَعلومَات؟
"الآخَرون" ينشغِلُون بالدِّفاع عن "ديموقراطيَّتِهم" أمامَ مدٍّ فاشي فيما ننشغلُ نحْنُ بمُقاومَاتِها وبحصْد نتائج غيابها
قد يختلف الدِّيموقراطيّون أنْفُسُهُم حوْل "تفاصيلِ" الإجابةِ على مِثلِ هذا السّؤال، ولكن لا أحْسَبُ أنَّ أحدًا يختلفُ حوْل حَقيقةِ أنْ لا ديموقراطيَّةَ بِلا عَدالَة، وأنَّ العامَ الّذي نُودِّع تَرَكَ السّؤال الأكبر في تِلك المسألةِ شَاغرًا بعد أنْ قضت مَحكمةُ العدْلُ "الدَّوليَّة" بقبولِ دَعوَى محاسبةِ إسرائيل على جرائمِها في غزَّة. وبعدَ أن أصْدَرَت المحكمةُ الجنائيّةُ "الدَّوليَّة" قرارَها بتوقيفِ رئيسِ الوزراء الإسرائيلي ووزيرِ حربِه لاتهامِهما بارْتكابِ جَرائِم حرْب. هل تأخذُ العدالةُ مَجرَاها؟ أم أنَّ الرَّئيسَ "المُدان" الذي نَجَحَ بآلياتٍ "ديموقراطيَّة" في أن يعودَ إلى البيتِ الأبيَض سيكونُ العاملَ الحَاسِمَ في إفلاتِ المُجْرِمِين من العِقَاب؟
وبعد،
فسَواء تَمَكَّنَ التْرامبيّون (اليَمينيّون) من مقاليدِ السُّلْطَةِ والثَّقَافَةِ في هذا البَلَدِ أو ذاك، أو نَجَحَ أنصارُ المَنْطِقِ والعَدالةِ والحُرِّياتِ في كَبْحِ جَمَاحِهِم وجُنونِهم وفَاشِيَّتِهم، فالأمرُ في عَالمِنا العَربي المُبْتَلَى بمُسْتَبِدِّيه وفاشِيَّتِه لا علاقَةَ له مِن قَرِيب أو بَعِيد بأسئلةِ الدِّيموقراطيَّة أعلاه. مِن فَضْلِكُم لا تَقِفُوا كثيرًا عِنْدَ ما جَرَى في سوريا، فالأمرُ بكلِّ تفاصيلِه يَظَلُّ "خارجَ السِّيَاق"، كما سيظلُّ مرهونًا للأسفِ بما سيفعلُهُ بِه "الشَّياطِين".
هَا هوَ عامٌ جَديد. وهَا هُم "الآخَرُون" يَنْشَغِلُونَ فيهِ بالدِّفاع عن "ديموقراطيَّتِهم" أمامَ مدٍّ شُوفينِي فَاشِي ظَاهِر، فيما ننشغلُ نحْنُ حُكَّامًا بمُقاومَاتِها، وشُعوبًا بِحَصْدِ نتائجِ غيابِها؛ فَقرًا وعَوَزًا وفَسَادًا وخُنُوعًا لخَرائِط يَرسُمُها الصَّهايِنَة، ويَسْكُتُ عنْها حُلفَاؤُهُم؛ الأقْويَاء، لا بما لديْهِم من ثَرواتٍ طبيعيَّةٍ، فربَّما لدينا أكثر، ولكنْ بما عَرَفوهُ من دِيموقْراطيَّةٍ يَنْشَغِلونَ اليوْم بأسْئلتِها.
(خاص "عروبة 22")