الفساد وسبل الإصلاح

الضغوط الدوليّة تُحرّك مياه الفساد الرّاكدة في اليمن

اليمن - محمد الغباري

المشاركة

عَمَدَت الحُكوماتُ المُتعاقِبَةُ في اليَمَن طَوَال سَنواتٍ من الحرب إلى تجاهُلِ مِلَفّ الفَسَادِ أو إحْيَاءِ الهيْئاتِ القَانونيَّة المَعْنِيَّة بمُكافحته، قبل أن تَرْضَخَ لذلك تحت ضَغْطِ الدُّوَلِ المَانِحَةِ وتَكْشِفَ عن وَقَائِعَ تزيدُ قيمتُها عن مِليَار دولار ومِساحَات شاسِعَة من الأرَاضي.

الضغوط الدوليّة تُحرّك مياه الفساد الرّاكدة في اليمن

على الرَّغم مِن الدَّعواتِ والوُعودِ التي أُطْلِقَت طَوَال السَّنوات المَاضِيَة لإعادةِ تشكيلِ الهَيئةِ العُليا لمُكافحةِ الفَسادِ وهيْئةِ الرَّقابَةِ على المُنَاقَصَاتِ وإعادةِ الاعتبارِ لتقارير جهازِ الرَّقابَةِ والمُحاسَبَة، إلّا أنَّ الحديثَ عن الإصلاحاتِ ومُكافَحَةِ الفَسادِ ظلَّ محصورًا في خِطاباتِ المَسْؤولين وفي لقاءاتِهم مع مُمثِّلي الدُّوَلِ المَانِحَة.

خلال الأشهرِ الأخيرةِ من العام 2024، عَجِزَت الحكومة عن دفْعِ رَوَاتِبِ المُوَظَّفين نتيجةَ استِمرارِ تَوقُّفِ تَصْديرِ النَّفط بسببِ هَجماتِ الحَوْثِيّين، واعتمادِها على الدَّعمِ المَالي الذي يأتي من السُّعودية، والتَّسْهيلاتِ الائتِمانِيَّة التي تُقَدَّمُ عبر صُندوقُ النَّقْدِ الدَّولي، ولهَذا رَفَضَت الدُّولُ المَانِحَةُ تقديمَ أيّ دَعْمٍ إضَافيٍ واتَّخَذَت مَوْقِفًا مُوَحَّدًا بعدمِ تقديمِ أيّ مُساعَدات إلّا بعد اتخاذِ خطواتٍ عمليَّة في مجالِ مُكافحةِ الفساد.

هذه الضُّغوطُ والخُطواتِ التي بدأَها رئيسُ الحُكومةِ بإحَالةِ مِلفَّاتِ مَسْؤولين في قطاعِ النَّفطِ إلى النِّيابَةِ، حَرَّكَت المِيَاهَ الرَّاكِدةَ ودَفَعَت المَجْلِسَ الرِّئاسِي إلى اصدارِ قراراتٍ بإعادةِ تَشْكيلِ الهَيْئةِ العُليا لمكافحةِ الفسادِ وهَيْئَةِ الرَّقابَة على المُناقَصَات، وهَيْكَلَة الجِهاز المَرْكزي للرَّقابَة والمُحاسَبة، وإحَالةِ تقاريرِ الرَّقابَةِ إلى النِّيَابَة.

وَقَائِعُ الفَسَادِ المُعْلَن عنْها شَمَلَت قِطَاعَاتِ النَّفطِ ومِلَفّاتِ أرَاضِي وعقاراتِ الدَّولةِ والتي تتَجاوزُ قيمَتها التَّقديريَّة أكثَر مِن مليَار دولار، وامتدَّ هذا الفسَادُ إلى البَعثاتِ الدّيبلوماسيَّة إلى جانِب قضَايا الاسْتيلاءِ على المالِ العامّ وتَبْييضِ الأمْوالِ وتمْويلِ الإرْهابِ والتَّهرُّب الضَّريبي.

مجلسُ القيادةِ الرِّئاسي ساندَ توجُّهَ رَئيسِ الحُكومة أحمد بن مُبارك الذي أحال مسؤولي مصَافي النَّفط إلى القضاءِ بتُهمَةِ إهدار 190 مليون دولار، ومُديرَ هيئةٍ مَعنِيةٍ بإنتَاجِ النَّفط، ووجَّهَ بسُرْعةِ استِكمالِ التَّحقيقِ في كافَّةِ القضَايَا، وإحالةِ المَنْظورَة منها أمام الأجهزةِ الرَّقابيَّة إلى السُّلْطَةِ القَضَائيَّةِ لاتِّخاذِ إجراءاتِها، ومتابعة المُتَّهمين المُتَوَاجِدِين في الدَّاخل عبْر الأجهزَةِ المُخْتَصَّة، والمُتَّهَمِين خارجَ البِلاد عبر الإنتربول الدَّولي.

ومع إعلانِ النِّيابَةِ العامَّة تَحْريكَ الدَّعْوَى الجَزَائيَّةِ في أكثر من 20 قَضِيَّةٍ تتعلّقُ بالفَسَادِ والاسْتيلاء على المالِ العامّ وتَبييض الأموال وتمويلِ الإرْهابِ والإِضْرَارِ بِمَصْلَحَةِ الدَّولَة، والتَّهَرُّب الضَّريبي والجُمْرُكي، تبَيَّنَ أنَّ هذه القضَايا على قِلَّتِهَا، تشْمَلُ قضَايا فسَاد في عقودِ تنفيذِ مشَاريعَ حَيويَّة، وعقودَ إيجار لتَوْليد الطّاقَة، وإهدارَ المَال العامْ، والتَّعدِّي على أرَاضي الدَّولة واستعمالِ مُحَرِّرَاتٍ مُزَوَّرَةٍ والتَّهرُّب الجُمركي وتمويلِ الإرْهاب، ومحاولةَ الاسْتِحواذِ على المُشْتقّات النَّفْطية بطرق غير مَشْروعَة.

وعلى الرَّغم من إعْلانِ المَجلِسِ الرِّئاسي والحُكومةِ مُواجَهةَ الفسَاد، إلّا أنَّ النِّيَابَة اشْتَكَت من عدمِ تجاوُبِ بعْضِ الوِزارَاتِ والجِهاتِ الحكوميَّةِ معَها، ما أدّى إلى تَعثُّرِ تَصَرُّفِها في قضَايا عِدَّةٍ لا تزال رَهْنَ التَّحقيق. ومن بيْن هذِه القضَايا الإِضْرَارُ بمصْلحةِ الدَّولة والتَّهَرُّب الجُمركي من قِبَلِ مُحافظٍ سابِق لا يزال يَرْفُضُ المثولَ أمامَ القضَاء حتَّى الآن، بعد أن تمَّ تجْميدُ نحو 27 مليار ريال من أرْصِدَتِه مع استِمرارِ ملاحَقتِه بتَوْريدِ عَشَرَاتِ الملياراتِ المُخْتَلَسَة من الأموالِ العامَّة.

وفي قِطَاعِ النَّفْط، اتَّهم جهازُ الرَّقَابَةِ والمُحَاسَبَةِ شركة "بِتْرُومَسِيلَة" بتصديرِ النَّفط الخَامّ من القِطاعَاتِ الجَاهِزةِ والمُنْتجةِ وتحصيلِ نحو 30 مليون دولار عن كلِّ شحنةٍ بإجمالي 1.2 مليار دولار، والقِيامُ بتَحويلِ المبلغ إلى حِسَابَاتِها في الخارِج، "مع أنَّ القطاعاتِ كانت جاهزةً للإنتاجِ ولم تشْهَد أيّ أنشِطةٍ استِكشَافيَّة أو تَطويريَّة من قِبَلِ الشَّركة، والتَّكاليفُ التَّشغيليَّة اقتصرَت على الرَّواتِب والمصروفاتِ الأخرى، والتي لا تَتَجاوزُ بأيّ حال 25% من قيمةِ النَّفطِ المُباع"، مشددًا على أنَّ ذلك يُثيرُ تساؤلاتٍ حوْل مَصيرِ الإيرادات المُتَبَقِّيَة.

وفي مُوازاةِ هذِه التَّحرُّكاتِ التي كانَ لهَا صدًى شَعبِي وَاسِع، تَعَهَّدَ رئيس الوزراءِ اليَمني بالمِضِيّ بثبَات في مُكافَحةِ الفسَاد‬⁩، وقال إنَّه وضع هذا الملف على رأسِ أولويّاتِه الخمْس الرئيسيَّة بإصرارٍ وإرادةٍ حاسِمة. وتحدَّثَ عن اعتمادِ خُطواتٍ عمليَّةٍ في إحالةِ المِلفَّاتِ إلى القضَاء، والتَّنسيقِ مع الأجهزةِ الرَّقابيَّة والأمْنيَّة لمُحاسبةِ المُفْسِدين.

وبالتَّزَامُنِ مع تعديلٍ حكوميٍ مُرْتقَب واستمرارِ خلافِ المُكوِّناتِ السِّياسِيَة حوْل تَقَاسُمِ الحَقائِب الوِزَاريَّة، وهو التَّقاسُم الذي يُنْظَرُ إليْه باعتِبارِه مِظَلَّةً لحِمايةِ الفسَاد، أكَّدَ رئيس الحكومة أنَّ إحَالةَ قضَايا الفسَاد إلى القضَاء نابعٌ من التزامِه المُطْلَق بِنَهْجِ مُكَافَحَةِ الفسَاد‬⁩ وإعلاءِ الشَّفافيَّة والمُسَاءَلَة كموقِفٍ وليْس مُجرَّد شِعار. وتَعَهَّدَ بِأن يستمرَّ العمَل مع الأجْهزةِ القَضائيَّة والرَّقابيَّة في هذا الاتِّجاه من دونِ تَهاوُن، وأنَّ لا حمايةَ لمَنْ يَثْبُتُ تَوَرُّطُهُ في نهْب المَال العَام او الفسَاد المَالي والإدَاري من يَدِ العدالة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن