التحديات الأربعة التي ترفعها التكنولوجيا بوجه الرأسمالية هي:
- التحدي الأوّل تقني خالص، يروم مساءَلة التّكنولوجيا لنمط تنظيم الرّأسمالية، لطبيعة التّراكم بداخلها، لأشكال فِعْلِهَا وتفاعُلها، ولآليات اشتغالها ضمن منظومة السّوق والإنتاج وتوزيع الثروة.
- التحدي الثاني اقتصادي، ويبتغي التّساؤل في قابليّة الرّأسمالية وقدرتها على هَضْمِ ما تستنبتُه التّكنولوجيا من مستجدّاتٍ، بما يسهم في الزّيادة في إنتاجيّتها، أو الرّفع من ربحيّتها، أو الضّغط على منابع التّكلفة المتأتّية من مسلسل دورتها الاقتصادية في الزّمن وفي المكان.
- التحدّي الثالث اجتماعي، ويقفُ عند شكل إدماج الفضاءات غير الاقتصادية في صَيْرورَةِ نظام الإنتاج والتّوزيع والاستهلاك الجديد، إذ إنّّ "تكييف" ذات الفضاءات - خاصّة فضاء الشّغل - هو من إعادة النّظر في طرق اشتغال الرّأسمالية، ومن تحويل دور الفاعلين المؤسَّساتيين، وأيضًا من إدماج الأطر الاقتصادية والجغرافية في الفضاء التّقنو-اقتصادي القائِم أو المُراد إقامته.
- أمّا التحدي الرابع، فهو تحدٍ ثقافي صرْف، ويتموْقع في صلب السّؤال عن قدرة الرّأسمالية وقابليتها على استنباتِ تمثّلاتٍ جديدةٍ لدى الأفراد والجماعات، كي لا تعْكس توجّهات المنظومةِ السّائِدة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وحسب، بل أيضًا منظورها لذوات الأفراد والجماعات وهُوياتهم الواقعية.
"براديغم" مُتمحوِر حول شبكات تُمَكِّنُ المعلومة والمُعطى والمعرفة من أن تصبحَ المحدِّد لمسلسلِ التّراكم وإنتاج القيمة
لو سلّمنا بأنّ لكلِّ مرحلةٍ من مراحل تطوّر الرّأسمالية نظامها التكنولوجي الخاصّ، فإنّه سيسهل علينا التّسليم بأنَّ الرّأسمالية زمن العوْلمة وانفجار تكنولوجيا الشّبكات، إنّما تحتكمُ إلى نظامٍ تكنولوجيٍ جديدٍ يواكبُها، يفتح لها في الآفاق التّنظيمية ويُقَلِّصُ لفائدتِها، دورة الإنتاج وكلفة الاستثمار.
ولذلك، فإنَّ التّكنولوجيا الجديدة، بأَعْتِدَتِهَا وتطبيقاتِها وبرامجِها المتقدّمة، قد أفرزت "اقتصادًا جديدًا" من طباعٍ ثلاثة: معلوماتيّ المضمون، شُمولي الطّبيعة، كَوْني التّوجه والمسار.
هو اقتصادٌ معلوماتي المضمون، لأنَّ إنتاجية وتنافسية وحداتِ وأفراد هذا المجتمع (مقاولات وجهات وبلدان) إنّما هي مرْتهنةٌ بالقدرةِ على إنتاجِ واستغلالِ وتطبيقِ المعلوماتِ الناجعةِ المرْتكزةِ إلى المعرفة؛ ثمّ هو اقتصادٌ معلوماتيٌ وشموليٌ، ولأنَّه في ظلِّ الظّروف التاريخية الجديدة، فإنَّ الإنتاجيةَ والمنافسةَ تأخذ تعبيرها داخل شبكةٍ كَوْنية من التّفاعلات. وهو اقتصادٌ شموليٌ "لأنّ الأنشطة المركزية في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع وكذا مكوّناتها (رأس المال، العمل، المواد الأوّلية، التّسيير، المعلومات، التّكنولوجيا، الأسواق) باتت منظمةً على المستوى الكَوْني، إمّا مباشرة، أو من خلال شبكاتٍ من العلاقات بين الفاعلين الاقتصاديّين.
هو بالمحصّلة النّهائية، اقتصادٌ معلوماتيٌ وشموليٌ وكوْنيٌ، لأنَّ المنافسة والإنتاجيّة باتت تأخذ تعبيراتها الكبرى بداخل شبكةٍ من التّفاعلات تطال الكَوْن برمَّته، بما فيه الفضاء الخارجي.
أتى هذا البراديغم تعبيرًا عن تحوّلات اقتصادية واجتماعية وثقافية كانت العَوْلمة نتاجها
هذا الرّابط التاريخي بين المعرفة والمعلومة والشّبكات، الذي هو أساس الاقتصاد الجديد، ثمّ البُعْدُ الكَوْني لهذا الأخير، مُتَّكِئًا على ثوْرة التّكنولوجيا الرّقمية، هو الذي أفرز هذا النّظام الاقتصادي المميّز والجديد.
صحيحٌ أنَّ المعلومة والمعرفة كانتا، منذ البدء، من العناصر الأساسية لمسلسلات التراكم. وصحيحٌ أنَّ التطوّر التّكنولوجي كان يحدِّد قدرة الإنتاج وأشكال التنظيم الاجتماعية، إلّا أنّ مصدر القطيعة اليوم إنّما بات يَتَمَثَّلُ في بروزِ "براديغم" تكنولوجي جديد، مُتمحوِر حول تكنولوجيا وشبكاتٍ قويةٍ ومَرِنَةٍ، تُمَكِّنُ المعلومة والمُعطى والمعرفة من أن تصبحَ المحدِّد المركزي لمسلسلِ التّراكم وإنتاج القيمة.
لم ينْبع هذا البراديغم/النّموذج من فراغٍ ولا تكرّس في مجال بوار، بل أتى تعبيرًا عن تحوّلاتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ كانت العوْلمة نتاجها، وأيضًا المحرّك الذي يدفع بها دفعًا في الزّمن وفي المكان.
يقول مانويل كاستيلس بهذا الخصوص: "إنّّ حاجيّات الاقتصاد، فيما يتعلّق بالتسيير المَرِن، وعوْلمة رأس المال، والإنتاج والتجارة، وكذا متطلّبات المجتمع، حيث قِيَم الحرّية الفردانيّة والتّواصل دونَما عوائق، قد أضْحت أساسيةً في التّطورات المذهلة للمعلوماتية والاتصالات". لقد أفْرزت بنيةً جديدةً متمحورةً حول مفاهيم "المجتمع الشّبكي" و"المجتمع المعلوماتي" أو "المجتمع التّقنو/اقتصادي".
نظام شبكيّ ومعلوماتيّ تتطلّع الرّأسمالية من خلاله إلى فرض علاقات اجتماعية جديدة على مستوى الكَوْن برمَّته
نحن إذنْ بالمحصّلة، بإزّاء منظومةٍ للرّأسمالية، يندغِم بصلبِها جزر الاقتصاد المادّي المتراجع، بمدّ الاقتصاد اللّامادّي المتقدّم، المُهَيْكِل لكلّ أشكال الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية. هو عبارةٌ عن مزيجٍ بين نظامٍ شبكيّ ومعلوماتيّ بتراتبيّاتٍ جديدةٍ بين الأفراد والجماعات والدّول، ونظامٍ شموليّ يكتسح كلّ الفضاءات الخاصّة، ويرتكِز إلى تمثّلاتٍ محدَّدةٍ عنوانها الفردانيّة واللّامركزية والصّرامة في الهيكلة والتّنظيم.
إنَّه نظامٌ تتطلّع الرّأسمالية من خلاله، إلى تحديدِ وفرضِ علاقاتٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ على مستوى الكَوْن برمَّته، لدرجةٍ لا يغدو هذا الأخير بموجبِها اقتصادًا مُعَوْلمًا فحسب، بل منصة واسعة لا يرى المرء عبرَها إلّا تكثيفًا لكلّ تيارات السّلع والخدمات والرموز.
(خاص "عروبة 22")