لقد أثبتت الأيام ان النخب المسيحية، في لبنان وفي بلاد الاغتراب، كان لها دور حاسم في المحافظة على ما تبقى من الكيان اللبناني، سيادةً واقتصاداً وثقافةً وانفتاحاً وتواصلاً مع العالم، وذلك بما أنجزوه وينجزونه في القطاع الخاص، وهو ما يجب الاستفادة من نجاحاته والذهاب إلى التشبيك بينه وبين الدولة، لا سيما في المرافق الحيوية التي تهتم بيوميات المواطنين.
أقول هذا الكلام بلحاظ الهواجس التي بات يكررها بعض المسيحيين في لبنان، بالرغم من إعلان الشهيد رفيق الحريري بأننا أوقفنا العد، ورفع الكثرة الكاثرة من المسلمين شعار "لبنان أولاً". وكذلك بلحاظ الدعوات للنهوض بحصة المسيحيين في مراكز الدولة اللبنانية، ولاسيما في ضوء الانخفاض النسبي في ديمغرافيتهم العددية.
المشكلة في الشحن الطائفي والتدافُع السياسي والمذهبي بصورة لم نعهدها حتى أثناء الحرب الأهلية
مسألةُ حصة المسيحيين في الإدارة تحديداً، كما هي حصصُ الطوائف الأخرى ملحوظةٌ في المادة 95 من الدستور، ومحصورةٌ في مواقع معيَّنة، ولا تتجاوز الفئة الأولى وما يعادلها أو يوازيها، ريثما يُصار إلى إلغاء الطائفية السياسية بحسب التدرُّج الملحوظ في وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف).
المشكلة الفعلية والعملية الآن ومنذ سنوات تكمن في ضمور حضور سلطة الدولة اللبنانية وتراجع هيبتها، وهي أيضاً في الشحن الطائفي والتدافُع السياسي والمذهبي بين القيادات السياسية والحزبية، بصورة لم نعهدها حتى أثناء الحرب الأهلية السيئة الذكر.
انطلاقاً مما تقدّم، أرى من واجبي أن أبين أمراً أساسياً؛ وهو أنَّ طغيان سردية الأعداد ونسبتها إلى مجموع اللبنانيين على تفكير كل فريق من اللبنانيين وجعله المعيار الأساس للفصل في ما بينهم، بديلاً عن إعلاء شأن التميز والانجاز، ليس إلاّ دخولاً في معركة ديمغرافية خاسرة سلفاً لجميع اللبنانيين ولاسيما للمسيحيين. ويستوي مع هذا الرهان الخاسر، الرهانُ على "فائض القوة" لدى آخرين، وجعله معياراً للفصل.
في المقابل، فإنَّ التحول نحو جعل المنافسة البناءة بين الفعاليات الوطنية، مستندةً إلى تبني معايير الكفاءة والجدارة والاستحقاق والالتزام بها، وفق آليات موضوعية وشفافة وتنافسية، وتقوم على محاسبة مؤسساتية على الأداء، من شأنه أن يعيد الثقة لكل الكفوئين والمميزين في لبنان، وللبنانيين آخرين عاملين خارج لبنان، ويستعيد ثقة اللبنانيين بالغد وبلبنان الوطن، ويعزّز التمسّك بمبدأ المواطنة على أساس قواعد الحق والعدل والمساواة بين جميع اللبنانيين. وعند الالتزام بهذه المبادئ والقواعد، فإنَّ من سيفوزون بتلك المناصب هم الأفعل والأفضل من المرشحين، وبالتالي يكون الرابح الأساسي هو لبنان وجميع اللبنانيين، ولاسيما أولئك الذين تمكنوا من أن يراكموا على مدى السنين الماضية كفاءات ومهارات متميزة.
وأعود مرة أخرى إلى إخوتي المسيحيين اللبنانيين لأقول: يكفي أن ننظر الآن إلى حال القطاعات الأساسية من خارج إدارات ومؤسسات القطاع العام في لبنان، في النقابات المهنية والمؤسسات الجامعية والتعليمية والاستشفائية والمصرفية والاقتصادية والسياحية والصناعية، ولاسيما المؤسسات المتخصصة بالاقتصاد الحديث والذكاء الاصطناعي، يكفي ذلك لنتبيَّن قدرة المسيحيين على مواصلة الدور المميّز والاستثنائي الذي لعبوه ويلعبونه في جميع هذه القطاعات، ويستطيعون أن يستمروا في أداء دورهم بكفاءة عالية. وهذا في صالحهم؛ ولكنه أيضاً وبالتأكيد في صالح المسلمين، ويصبّ حتماً في تحفيز دينامية الاقتصاد والمجتمع اللبناني، وفي النتيجة في صالح جميع اللبنانيين وصالح لبنان الوطن.
كيف يمكن أن يتحقق ما نتمناه ويصبو إليه شبابنا المتطلعون لأن يلعبوا دوراً متميزاً في وطنهم، وليس أن يصبحوا مشروع هجرة دائمة؟
ليس هناك من طريق يمكن سلوكه على مسارات هذا الهدف السامي إلا انخراط جميع المكونات اللبنانية في ورشة التنافس الإيجابي البنَّاء؛ وذلك بالعودة إلى المبادئ والمعايير التي يؤكدها الدستور اللبناني، ويحرص عليها اتفاق الطائف، والقائمة على قواعد الكفاءة والجدارة والاستحقاق والقدرة على الإنجاز. وهي الوسيلة الحقيقية لإطلاق حيويَّةٍ مستجدة في النظام اللبناني وفي الاقتصاد اللبناني، كما هي الوسيلة الوحيدة لترقِّي المجتمع اللبناني بفئاته كافة، والتي تقوم على أسس المنافسة الشريفة والخلّاقة وغير المتحيّزة، ، والتي لا يحتاج فيها أصحاب الكفاءة والجدارة للوساطة، ولا للوقوف على أبواب الزعماء والسياسيين.
بدّد اللبنانيون فرصاً لإصلاحٍ حقيقي يعيد للبنان ألقه ولدولته سلطتها الكاملة على أرضها ولدستورهم احترامه
بذلك يعود لبنان بلداً طبيعياً، قادراً على النهوض والنمو والتطور، والتلاؤم المستمر مع التحولات والمتغيرات، حيث يتنافس الجميع على أساس من تلك القواعد المبنية على التميّز. ذلك بما يعيد للمواطن كرامته وحقوقه في الحصول على ما هو أهلٌ له، ومن دون أن يهدر كرامته أو وقته أو ماله أو مستقبله. وهذا بالتأكيد ما فيه مصلحة للبنان ومصلحة لجميع مكونات الوطن اللبناني، وما يعبر حقيقة عن أهمية وقيمة العيش الواحد اللبناني.
في ميادين التنمية والترقّي الاجتماعي، ليست الخسائرُ المادية المباشرة والناجمة عن الأحداث هي الأكبر والأدهى، وإنما هي تلك الخسائر الناجمة عن إضاعة الوقت وتبديد الفُرص، وعن التمادي في التقاعس والتواكل.
لقد أضاع اللبنانيون زمناً طويلاً ساد فيه التشظي والخلاف فيما بينهم، وحيث بدّدوا فرصاً لإصلاحٍ حقيقي يعيد للبنان ألقه وتميزه، ولدولته سلطتها الكاملة على أرضها وهيبتها واحترامها لذاتها، ولدستورهم احترامه، ويعيد للبنانيين كرامتهم المهدورة، ويخرجهم من هذا النفق الذي باتوا فيه، والذي قادتهم إليه زعاماتُ الشّقاق والنفاق بمعاركها الدونكيشونية. وهذا ما حمل الكثير من الكفاءات، فضلاً عن مواطنين شرفاء، على الهجرة، ليس المؤقتة فقط، بل الدائمة- لا سمح الله- التي بات يشكو منها كل اللبنانيين ولاسيما المسيحيون.
عودة المسيحيين للتركيز على الدور المميّز الذي تأهلوا له عبر أكثر من خمسة أجيال تؤهلهم لأن ينهضوا بعيداً عن هواجس الأعداد وإحراجاتها، وينهض معهم سائر اللبنانيين، وبهم جميعاً ينهض لبنان.
الدولة السيّدة الحرَّة المستقلَّة تُشكّل القاسم المشترك لجميع اللبنانيين لا لبنان الساحة والمنصَّة وصندوقة البريد
العمران والازدهار والرقي الحضاري لا تتحقق في عالم تسوده العصبيات والتطرف، بل تحتاج إلى عمل دؤوب في غرس مفهوم المواطنة وقيمها التي تقوم على المساواة والحرية والعدالة والمشاركة في تحمل المسؤولية المجتمعية، وبما يعزز مفاهيم الانتماء، والسعي الجاد لنيل الحقوق والالتزام بتأدية الواجبات.
أعتقد بقوة أنَّ جميع اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، هم "أهل الرجاء" و"لا يقنطون من رحمة الله"، وأنَّ إيمانهم يَقْرِنُ الأملَ بالعمل. بذلك تبقى فرصةُ النهوض متاحةً من جديد، من خلال سلوك المسارات الحقيقية والآمنة لاستعادة مفهوم لبنان العربي، الوطن النهائي لجميع أبنائه، لبنان الرسالة، ولبنان التميز، ولبنان المواطنة القائمة على العدالة والمساواة والحق والقانون والنظام، ودائماً وأبداً لبنان الدولة السيّدة الحرَّة المستقلَّة، التي تشكّل القاسم المشترك لجميع اللبنانيين، لا لبنان الساحة والمنصَّة وصندوقة البريد والأرض السائبة.
لنعلَمْ جميعاً أنَّ أيَّ سعيٍ أو جهدٍ أو بَذْلٍ لا يتَّخذ من قيامة الدولة ذات المواصفات والصلاحيات الكاملة بحسب الدستور بوصِلَةْ له إنّما هو عملُ الزَّارعِ في أرضِ غيرهِ!
ولنعلَمْ أيضاً وخصوصاً أنَّ الفُرَص لا تأتي "غِبَّ الطَّلب"، وأنَّ المُعوَّلَ عليه هو اقتناصُها في أوانها بفطنةٍ وذكاء وفضيلةٍ وطنية.
لقراءة الجزء الأول