صحافة

سيبقى المهاجرون وسيكون مرور ترامب عابراً

راغب جابر

المشاركة
سيبقى المهاجرون وسيكون مرور ترامب عابراً

لا بد من السؤال المزدوج: هل يمكن أن تعيش أميركا من دون العالم وهل يمكن أن يعيش العالم من دون أميركا؟ السؤال خيالي نوعا ما لأن الإجابة البديهية انه لا يمكن فصل أميركا عن العالم الذي أصبحت عنصراً محركاً في تقلباته منذ خرجت من قوقعتها في أوائل القرن الماضي، وانخرطت في حروبه ومساراته واقتصاداته وثقافاته وأنظمته لتفرض سلطتها ونفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي بشكل كبير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم.

يحل في البيت الأبيض رئيس أميركي مختلف كلياً عن جميع الرؤساء الذين سبقوه، حتى إنه يكاد يكون مختلفاً عن نفسه في ولايته الأولى التي خسر معركة تجديدها أمام منافس ضعيف هو جو بايدن، ليعود بقوة أمام مرشحة الحزب الديموقراطي كامالا هاريس التي فاجأت الجميع بهزالها أمام جموح المرشح الجمهوري الإشكالي.

ترامب العائد بقوة الى قيادة أميركا لا يشبه الديموقراطيين ولا الجمهوريين التقليديين، في أفكاره وسلوكه وخطابه وإيديولوجيته. رجل المال والأعمال ليس معروفاً عنه أنه صاحب ثقافة عميقة واسعة، ولا تجربة حزبية وسياسية قبل خوضه معركة الرئاسة لولايته الأولى. وهو أساساً ليس جمهورياً ملتزماً، بل فرض نفسه على الحزب مرشحاً في غياب شخصيات كانت قادرة على مقارعة هيلاري كلينتون بعد نهاية ولاية باراك أوباما. لكن ترامب هذا أشبه بتسونامي اجتاح أميركا والعالم بقوة الصوت والصورة والاختلاف والفرادة. الفرادة في الشكل والمضمون والأسلوب.

مفاجئ ترامب، ويضرب بقوة، لا يقيم وزناً للمجاملات، ولا يجهد في اختيار مفرداته، يقول ما يفكر به، رضي من رضي وزعل من زعل، قد يكون ذلك مصدر قوة، لكنه على المدى البعيد قد لا يكون كذلك، فالرجل مكشوف، رغم أنه أيضاً يملك ملكتي التلاعب بالكلام والتنصل اللتين يجيدهما كل سياسيي العالم. الرئيس الأميركي هجومي لا يرحم ولا ينسى، لم يشفع البروتوكول وأصول اللياقة لخصمه السابق جو بايدن الذاهب الى التقاعد عاجزاً ومريضاً وضعيف الذاكرة، فأشبعه طعناً وهو جالس بقربه في حفل التنصيب، ربما يكون حقوداً أيضاً وانتقامياً.

عشرت الأوامر التنفيذية وقعها ترامب في بداية ولايته الثانية، منها ما هو داخلي ومنها ما يتعلق بالسياسات الدولية، وسيعقبها الكثير خلال الولاية غير القابلة للتجديد، وكل منها يحتاج الى شرح وتفصيل، لكن من خلال هذه الأوامر ومن خلال تصريحات سابقة لترامب يمكن الحديث عن تغيير جذري في الفكرة الأميركية بحد ذاتها، وفي هذا السياق تدخل الثقافة الأميركية مع ترامب عصراً جديداً، لكن الأمر ليس مضمون النجاح.

فالرجل يقارب الثمانين وولايته قصيرة وأعداؤه كثر أيضاً والثقافة الأميركية باتت أعمق من أن تتغير بهذه السهولة، ولا شك في أن قوة التسونامي ستضعف مع تمدد الأيام واستعادة الأوساط الفكرية والثقافية العميقة دورها في مواجهة رجال المال والتكنولوجيا، اللهم إلا إذا كان رواد التكنولوجيا سيديرون العالم بثقافتهم الضحلة وأموالهم الهائلة مكان الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع وأهل الأدب والفنون على أنواعها.

أقنع ترامب الأكثرية المطلقة من الأميركيين بأن بلادهم ليست بحاجة لأحد، فهي تملك كل شيء، الثروة والقوة والتكنولوجيا والعلم والطاقة والأرض الشاسعة والنظام، ولأنها كذلك ولأن "عظمتها" هي ملك الاميركيين وحدهم لا يجب أن يشاركهم بها أحد. ولذلك روج لنظرية تخالف المبادئ التقليدية للسياسة الأميركية خلال أكثر من قرن من الزمن. قال لهم لا نريد غرباء ومهاجرين، سنطرد غير الشرعيين ونقيد دخول مهاجرين جدد، سنغلق أسواقنا أمام السلع الخارجية عبر رفع التعرفات الجمركية على الواردات، فالمنتجات الأميركية أفضل وأولى بالدعم، سننسحب من المنظمات الدولية والإنسانية بدءاً بمنظمة الصحة العالمية، ولن نلتزم باتفاقات المناخ ولتشتعل الكرة الأرضية بالاحترار المتزايد، سنوقف الحرب في أوكرانيا، ليس حباً ببوتين وزيلينسكي بل لكي لا ندفع دولاراً واحداً عن أحد، لن نحمي أوروبا، فلتدفع لتدافع عن نفسها، وربما لن ندفع لإسرائيل التي عليها ان تبرم صفقة سلام مع جيرانها نساعدها على إتمامها.

لكن ترامب الذي يعبث بتوازنات العالم فيدفع أوروبا إلى التسلح الذاتي وتجيير نسب عالية من موازناتها إلى الإنفاق العسكري، ويفرض عليها قيوداً جمركية مرهقة، ويتدخل في سياساتها الداخلية كما يحصل في ألمانيا التي يمد مستشاره إيلون ماسك يده الى حزبها اليميني المتطرف البديل من أجل ألمانيا، ترامب هذا يراكم الأعداء، في الداخل والخارج، وقد يدفعه اعتداده بنفسه وإسراعه في فرض التحولات الاستراتيجية إلى مواجهات ليست بعيدة، داخلياً وخارجياً، لأن أميركا بحاجة إلى العالم والعالم بحاجة إليها. إن تكاتف الأعداء، من الصين إلى أوروبا الخائفة على نفسها، إلى آسيا المتوجسة، لن يكون سهلاً التعاطي معه بالعصا، خصوصاً إذا كنت لا تريد حروباً.

لطالما كانت أميركا بلد مهاجرين ومن دونهم لن يبقى معنى لكل ثقافتها وتنوعها ولكل فنونها وآدابها وعلومها. سيبقى المهاجرون وسيكون مرور ترامب مروراً عابراً.

(النهار اللبنانية)

يتم التصفح الآن