تُعدّ الولايات المتحدة الأمريكية البلد الأكثر إسهامًا في مجال العلم من حيث عدد العلماء وعدد الحائزين على نوبل وعدد المنشورات العلمية وعدد الإختراعات الجديدة وعدد المؤسسات البحثية، لكنّ المفارقة هنا هي أنّ الحكومة ليس لها دور كبير في دعم الأبحاث في هذا البلد ولكن الفضل الأكبر يعود للقطاع الخاص غير الربحي، حيث هو مَن لديه الإسهام الأكبر في تطوير البحث في هذا البلد.
في سنة 2022 قامت الحكومة الأمريكية بدعم الأبحاث غير الدفاعية بميزانية بلغت 76 بليون دولار، وهي ميزانية متواضعة مقارنةً بالأموال التي خصّصها القطاع الخاص لدعم البحث والتطوير، حيث بلغ حجم الدعم الخاص للأبحاث 632.7 بليون دولار سنة 2021، أي أنّ أموال القطاع الخاص المخصّصة للبحث بلغت تقريبًا تسع مرات أموال الحكومة في هذا المجال.
أهمّ الأبحاث التطبيقية والنظرية لم يكن للحكومات أي دور فيها
يتوجّه دعم الأبحاث إلى نوعين من الأبحاث، هناك الأبحاث القاعدية الأساسية التي تهدف إلى توسيع معرفتنا بالعالم لكن دون تحقيق منافع تجارية من نتائج البحث، مثل الأبحاث في الفيزياء النظرية وأبحاث استكشاف الفضاء التي لا تعود بأيّ نفع قريب على المواطنين، ولا يهتمّ بمخرجاتها غير العلماء. ويعتقد الكثيرون أنّ الحكومة وحدها هي القادرة على تحمّل تكاليف الأبحاث النظرية التي ليس لها قيمة تجارية بينما القطاع الخاص يهتمّ بالبحوث العلمية ذات الفائدة التجارية، وهذا رأي غير صحيح دائمًا وهذه بعض الأدلة في هذا السياق.
تاريخ العلوم والاختراعات يكشف أمرًا مختلفًا غير معهود لدينا اليوم، وهو أنّ أهمّ الأبحاث التطبيقية والنظرية لم يكن للحكومات أي دور فيها. فالكثير من العلماء الذين توصلوا إلى إكتشافات كبيرة كان يحذوهم السعي إلى تحصيل متعة الاكتشاف وليس كسب المال، مثل الفيزيائي مايكل فراداي مكتشف الموجات الكهرومغناطيسية دون دعم حكومي، والكثير من المشاهير الذين أنجزوا اختراعات كبيرة غيّرت حياتنا إلى الأبد، مثل توماس إديسون مخترع المصباح، ونيكولا تسلا والإخوة رايت مخترعو الطيران الحديث، لم يستفيدوا من أيّ دعم حكومي للوصول إلى تلك الاختراعات المذهلة. وفي حالة الإخوة رايت (مخترعو الطيران) كانت حالتهم مثيرة حيث كانوا ينافسون مشروعًا حكوميًا لتطوير الطيران واستطاعوا الوصول إلى إختراعهم قبل المشروع الحكومي المنافس.
كما أنّ الجامعات هي مؤسسات خاصة بالأساس، حيث إنّ الجامعات الأمريكية وهي في أغلبها مؤسسات غير ربحية خاصة أمثال يال وهارفرد وغيرها، وُجدت لتقدّم مصادر تمويل بديلة للحكومات، وهي مؤسسات تعليمية وبحثية خاصة تمّ إنشاؤها كمؤسسات وقفية توفّر للعماء فرص التدريس والقيام بالأبحاث على حد سواء.
كما أنّ القطاع الخاص يدعم الأبحاث التي ليس لها منافع تجارية مباشرة، وليس ذلك حكرًا على الحكومات، فإنّ المؤسسات الخاصة غير الربحية هي كذلك توفّر ميزانيات لدعم هذا النوع من الأبحاث على الرغم من أنّ مخرجاتها غير تجارية لكنها مهمّة لصحة الإنسان ورفاهيته. فمؤسسة السرطان الأمريكية، وهي مؤسسة عمرها 100 سنة تجمع تبرعات فردية لتمويل الأبحاث، قد استثمرت 145 مليون دولار في أبحاث السرطان في 2022 وكانت قد استثمرت أكثر من 5 بليون دولار منذ سنة 1946. ومثال مؤسسة السرطان الأمريكية يُبيّن أنّ القطاع الخاص قد يتجه إلى دعم أبحاث تتجنّب الحكومة دعمها، ومن المثير للإهتمام أنه لما تأسّست مؤسسة السرطان الخيرية في الخمسينات كانت مناقشة موضوع السرطان تُعتبر من "التابوهات" لدى الرأي العام، الأمر الذي جعل الحكومة تتجنّب الاهتمام بدعم الأبحاث في مرض السرطان.
تتنوّع مجالات الأبحاث التي يدعمها القطاع الخاص من ميدان الصحة وصولاً إلى ميدان المشكلات المجتمعية، حيث تدل المعطيات المتوفرة حول دعم المؤسسات غير الربحية للأبحاث الطبية في الولايات المتحدة الأمريكية على وجود مستوى عال من الاستثمارات الخاصة في قطاع أمراض المستجدة والمزمنة والمستعصية، حيث الحكومة ليس لها الكثير من الدعم لهذا النوع من الأبحاث. ومن بين أمثلة المؤسسات الخاصة التي تدعم بسخاء الأبحاث الطبية، نذكر الصندوق الوقفي الطبي [Howard Hughes Medical Institute funds] الذي ينفق حوالى 660 مليون دولار سنويًا في دعم الأبحاث الطبية ودعم عدة جمعيات لمرض ألزهايمر بـ90 مليونًا، ومؤسسة مرض الباركنسون بـ24,9 مليونًا في سنة 2022. كما وزّعت المؤسسة غير الربحية [The Bill & Melinda Gates Foundation] حوالى 3.6 بليون دولار في سنة 2021 من أجل دعم الأبحاث الصحية والتطوير عبر العالم.
علينا في العالم العربي أن نفكّر في الآليات التي تسمح بمشاركة أوسع للقطاع الخاص غير الربحي في دعم الأبحاث
ولا يكتفي القطاع الخاص غير الربحي بدعم الأبحاث في الرعاية الصحية، وإنما يدعم كذلك الأبحاث في قطاعات الطاقة والبيئة كذلك، نذكر هنا مؤسسة Alfred P. Sloan Foundation التي تدعم مجالات البحث في الطاقة والبيئة والاقتصاد والفيزياء، حيث أنفقت في سنة 2022 حوالى 48.1 مليون دولار دعمًا لهذه الميادين البحثية. كما أنّ المؤسسات الخاصة ذهبت إلى دعم ميادين يظنّ بعض الناس أنها من شأن الرعاية الحكومية كالأبحاث في الإنسانيات والفنون، فمؤسسة مثل Andrew W. Me llon Foundation قامت بدعم الأعمال الإبداعية والأبحاث الإنسانية بحوالى 592 مليون دولار. وفي الأخير، فإنّ هناك العديد من الشركات التجارية لديها فروع خيرية تقوم بدعم الأبحاث مثل مؤسسة فورد الخيرية، التي تُسهم في دعم الأبحاث الإجتماعية والسياسية التي تسعي لخفض عدم المساواة الإقتصادية والسياسية بين الناس، حيث أنفقت حوالى 713 مليون دولار في هذا الصدد.
بعد ما تبيّن لنا أنّ دعم الأبحاث هو في الأساس شأن القطاع الخاص وليس الحكومات، علينا أن نفكّر بالنسبة إلى العالم العربي في الآليات التي تسمح بمشاركة أوسع للقطاع الخاص غير الربحي في دعم الأبحاث، من خلال سنّ تشريعات جديدة تُسهّل إنشاء المؤسسات الوقفية المتخصّصة في دعم الأبحاث التي تجمع التبرعات من المواطنين، وتتلقى الهبات الخاصة والحكومية، وتدير الموارد بفعالية ومرونة لأنها مؤسسات خاصة وليست حكومية. ويمكن للحكومات العربية أن توجّه الأموال الحكومية إلى تلك المؤسسات الخاصة في شكل هبات من أجل تدبير حسن وفعّال وعقلاني لتلك الموارد وخاضع للمساءلة الحكومية والمدنية مقابل تقديم الإعفاءات الضريبية للمتبرّعين لها وللنشاطات التي تقوم بها تلك المؤسسات التي تُسهم في حلّ مشكلات قد تكون مكلفة للقطاع الربحي والقطاع الحكومي على السواء بسبب المخرجات التي يصعب تسويقها بسهولة في القريب العاجل.
(خاص "عروبة 22")