من المعلومِ أنَّ غالبيةَ النّاخبين المسلمين في ميشيغان قاموا بالتّصويتِ لصالح دونالد ترامب، وغيَّروا بذلك بوصلتَهم الانتخابيةَ من الحزب الدّيموقراطي إلى الحزب الجمهوري.
وفي تفسير التّغيُّرِ في اتجاه البوصلةِ، قال بلال الزهيري إمام المسجدِ الكبيرِ بولاية ميشيغان إنَّ أفرادَ الجاليةِ المسلمةِ الذين اجتمعوا مع ترامب خلال زيارتهِ للولاية في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي حدَّدوا له أربعة مطالب أساسيّة هي: وقفُ حروبِ الشّرق الأوسط وبالذّات حرب غزَّة وكذلك حرب أوكرانيا، وحمايةُ القيمِ الأُسَريّة في المناهجِ الدراسيّة، وتمثيلِ المسلمين تمثيلًا مناسبًا في الإدارة الأميركية، وأخيرًا اتخاذُ موقفٍ من انتشارِ ظاهرةِ "الإسلاموفوبيا" التي تغذّيها حملاتُ التَّحريضِ الإعلامي. وحين خطب الزهيري أمام ترامب معلنًا تأييدَ مسلمي ميشيغان له، حرص على أن يعزفَ على الوتر الحسَّاسِ عنده وهو مقاومة الهجرة غير الشرعية - فقال إنَّه يؤيّد ترامب في حرصِه على حمايةِ الحدودِ الأميركية من المهاجِرين غير الشرعيّين. وأقنعَت تلك الإشارةُ في خطاب الزهيري المرشّحَ ترامب آنذاك بالتّصفيق.
إطارٌ عام يتحرّك فيه مسلمو أميركا يتميَّز بصعود اليمين المتطرّف وبتغلغُل اللّوبي الصّهيوني في مراكز صُنع القرار
إذن كان هذا هو السّياق العام الذي تابعتُ فيه مراسم تنصيب ترامب، فلمّا غاب الحضورُ الإسلامي بين رجال الدّين تصورْتُ أنَّ ترامب بعدما صوّت له المسلمون نَفَضَ يديْه منهُم وتصرَّف بما يتَّسِقُ مع قناعاتِه اليمينيةِ المتطرّفة، وبما ينسجمُ مع تحالفاتهِ مع المسيحيّة - الصّهيونيّة. وقررتُ في ضوء ذلك، أنْ أكتبَ في الموضوع بالعنوانِ التالي: هل بالَغَ مسلمو أميركا في الرِّهان على ترامب؟ لكن عندمَا قرأتُ التفاصيلَ غيَّرتُ المدخلَ والعنوان.
مبدئيًا هناك إطارٌ عامٌ يتحرّكُ فيه مسلمو الولايات المتحدة، ويتميَّزُ هذا الإطار بصعودِ اليمين المتطرّف كجزءٍ من ظاهرةٍ عالميةٍ، وبتغلغُلِ نفوذِ اللّوبي الصّهيوني في مختلفِ مراكز صُنع القرار وفي الدّائرة المباشِرة المحيطةِ بالرَّئيس. وبعددٍ من المُسلمين ما بين 3.5 ملايين و5 ملايين نسمة على أقصَى تقدير، والأهمّ أنّه يتميَّزُ بتنوّعِ أصولِ المُسلمين ما بين عرب وأفارقة وآسيويّين فضلًا عن معتنقِي الدّين الإسلامي من الأميركيين، هذا الإطارُ بملامحِه المذكورة لا يوفِّر فرصًا كبيرةً لتأثيرِ المُسلمين في عمليةِ صُنع القرارِ الأميركي، وكوْنُ مصالحهم تلاقَت مع برنامجِ الرَّئيس ترامب في إنهاءِ الحروبِ والحفاظِ على القيمِ العائليّة، فهذا شيءٌ جيّدٌ لكنّه لا يضمنُ أن تتوافقَ مصالحُهم مع توجّهاتِ ترامب في مسائل أخرى كمسألةِ التمثيلِ المناسبِ للمسلمين مثلًا. وذلك أنّه حتّى تاريخِ كتابةِ هذا المقال لا يبدو أن ترامب قد استعان بأحدِ أفرادِ الجاليةِ المسلمةِ في إدارتِه.
ومثلُ هذه التحدِّيات للتأثير الفعّال لمسلمي أميركا كانت جديرةً بأن تدفعَهم للتنسيقِ في ما بينهم للتحرّكِ بشكلٍ متجانسٍ في القضايا التي تعنيهم داخليًّا وخارجيًّا، لكن لم يحدُث. وأتَت عمليةُ استبعادِ الإمامِ هشام الحسيني لتعطيَ مثالًا جديدًا على ذلك. الحُسيني من أصولٍ عراقيةٍ وينتمي للطائفةِ الشيعيّة، وبالتّالي فما أن أُعلن عن اسمِه حتى تعرّضَ للهجوم من كل الاتّجاهات. هاجمَه يهودُ أميركا وأذاعوا له فيديو سُئِلَ فيه إن كان "حزب الله" يتَّصِفُ بالإرهابِ فنفى ذلك، واستدلّوا من إجابته على تبعيّتِه لإيران. على جبهةٍ أخرى، انتقده فريقٌ من الشيعةِ لقربِه من تيارِ عمّار الحكيم وذكّروا بأنَّ هذا التيار انبثق عن "المجلس الأعلى للثورة الإسلاميةِ" الذي نشأ في إيران عام 1982. بينما هاجمَه فريقٌ شيعيٌ آخر باعتبارِه قد باع القيمَ الإسلاميةَ وتهكّم عليه أحدُهم بقولِه: هي صلاةُ البركةِ كم ركعة؟ أمّا الفريقُ الشّيعي المصطّفُ مع الولاياتِ المتحدّة فذكرَ أنّ الحسيني سافر للعراق بعد 2003 وانخرَطَ في المقاومة. على الجبهة الثالثة، وهي الجبهة السّنّيّة، حمل الإمام بلال الزهيري ذو الأصولِ اليمنيّة على الحسيني باعتبارِه لا يمثّل مسلمي ميشيغان، وتناثرَ الحديثُ عن موقفِ الحسيني الدّاعمِ للحوثيّين.
مسؤولية كبيرة تقع على عاتق مسلمي أميركا لقطع الطّريق على تعمُّد استبعادهم من دائرة الضّوء
هكذا تهيَّأَّت كلّ الأسباب لاستبعادِ تمثيلِ المسلمين من منصّةِ رجال الدّين في حفل تنصيب ترامب، ووجودُ أحدِهم كان سيصنعُ سابقةً تاريخية. السّؤال عن سببِ اختيارِ الحسيني في البداية سؤالٌ مشروعٌ ويحتملُ كل التَّأويلات منها النيّة المُبَيَّتَة لتفخيخِ تمثيلِ المسلمين. كما أنَّ السؤالَ عن سببِ عدم تغييرِ منظمي الحفل شخص الحسيني بعد أن تبيّن لهم عدمَ مقبوليتِه من أعدادٍ كبيرةٍ من المسلمين - هو سؤالٌ مشروعٌ آخر ويسيرُ في اتجاه تعمّدِ التّفخيخ.
لكن مِن المؤكَّد أنَّ هناك مسؤوليةً كبيرةً تقعُ على عاتقِ مسلمي أميركا لقطعِ الطّريقِ على تعمُّدِ استبعادِهم من دائرة الضّوء، وحتى يتحمّلوا هذه المسؤوليةَ سيظّلُ عنوانُ هذا المقال صالحًا للتَّكرار.
(خاص "عروبة 22")