على وقع تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الداعية لـ"تطهير" غزّة وتهجير أهلها، كان المشهد المُهيب لعودة الآلاف من الفلسطينيين من جنوب القطاع إلى شماله بعدما ساهمت الوساطات الدولية بفتح معبر نتساريم أمام "السيل البشري" الذي افترش العراء منتظراً لحظة الصفر للعودة رغم ما يعتريها من حزن وغصة بعد 15 شهراً من القتل والتدمير والخراب. وقد اختلطت مشاعر العائدين، الذين قُدر عددهم بـ300 ألف، الى "بقايا" منازلهم وأرزاقهم بعدما غيرت الحرب معالم غزّة وحولتها الى أكوام من الركام، الذي يحتاج الى سنوات طوال لإزالته وفق تصريحات مختلف المنظمات الدولية التي عاينت الواقع عن كثب.
إلا أن التمسك بالأرض كان عنوان يوم أمس، بعدما حمل الاهالي ما تبقى لهم من متاعٍ وأغراض وانطلقوا إما سيراً على الأقدام أو في المركبات. وقد استفزت هذه المشاهد الجانب الاسرائيلي مما دفع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الى التعهد بـ"هزيمة "حماس" بشكل كامل"، واصفاً إياهم بـ"النازيين الجدد". فيما رأى "حليفه" الوزير السابق، إيتمار بن غفير، على أن هذه المشاهد تشكل "صورة لانتصار "حماس" وجزء مهين آخر من الصفقة غير الشرعية". وأضاف: "جنودنا لم يقاتلوا، ولم يضحوا بحياتهم في غزّة للسماح بهذه الصور... يجب أن نعود للحرب".
دعوات العودة الى الحرب بشكل مستمر بعد انتهاء المرحلة الأولى المحددة في 42 يوماً هي ما تهدد اتفاق وقف النار خاصة بظل وجود رغبة اسرائيليّة عارمة بإسقاط مفاعيل الهدنة وخلق العثرات، وهو ما سيكون مدار بحث مُعمق خلال الزيارة التي يقوم بها مبعوث الرئيس الاميركي دونالد ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، حيث وفق موقع "أكسيوس"، فإنه سيلتقي نتنياهو، لمناقشة تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق وبدء المفاوضات بشأن المرحلة الثانية.
وتأتي هذه الزيارة بالتزامن مع وصول وفد من "حماس" إلى مصر برئاسة رئيس المجلس القيادي محمد درويش، حيث من المتوقع أن يلتقي بالقيادة المصرية لبحث تطورات تنفيذ الاتفاق بـ"مراحله الثلاث" بعدما سلمت الحركة قائمة بأسماء 25 رهينة على قيد الحياة من بين 33 المقرر الإفراج عنهم ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف النار. هذا واستمرت ردود الفعل على دعوة ترامب الى تهجير سكان غزّة الى مصر والأردن، حيث برزت عدة مواقف أوروبية وعربية معارضة، فيما تمسك الجانب الاسرائيلي وسارع الى مباركتها والدعوة العاجلة لتنفيذها حيث نعتها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بـ"الخطوة الواقعية"، فيما تحدثت عدة وسائل اعلامية اسرائيليّة عن أن هذا التصريح قد تمت مناقشته مع نتنياهو، الذي يصل الأسبوع المقبل، إلى العاصمة الأميركية واشنطن، للقاء الرئيس الأميركي، ليكون بذلك أوّل مسؤول سياسي يلتقي ترامب بعد إعادة وصوله الى البيت الأبيض.
العلاقات الاميركية - الاسرائيلية التي تشهد انسجاماً وتعاوناً بعد سلسلة خطوات اتخذها ترامب وتصب في صالح تل أبيب ومخططاتها الاستيطانية وتتكامل مع سياسات الاخير التي ميزت فترة رئاسته الاولى، تترافق مع استكمال العدوان الاسرائيلي على الضفة الغربية بعدما وسع جيش الاحتلال عملياته وشنّ حملة مداهمات واقتحامات، منفذاً اعتقالات واسعة في مناطق مختلفة، فيما عملت قواته على مواصلة تدمير المنازل ونسفها وإحراقها وتهجير الأهالي منها. الى ذلك، أعلنت الشرطة الإسرائيلية وجهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، عن اعتقال جنديين في الاحتياط، بشبهة تنفيذ مهام لصالح إيران وتقديم معلومات حساسة عن القبة الحديدية، حصلا عليها أثناء خدمتهما العسكرية في سلاح الدفاع الجوي.
المشهدية الفلسطينية بالعودة تشابهت مع استمرار تدفق أهالي جنوب لبنان إلى بلداتهم الحدوديّة، بعد تمديد اتفاق وقف إطلاق النار برعاية أميركية. وفيما استطاع عدد من الجنوبين الدخول بمؤازرة من الجيش اللبناني بعد انسحاب قوات العدو، استمرت المواجهات والصدامات في قرى وبلدات آخرى ما أسفر، وفق حصيلة غير نهائية، الى استشهاد شخصين وجرح 17 آخرين. وكانت وزارة الصحة أعلنت أن الحصيلة الإجمالية لاعتداءات يوم الأحد الماضي وصلت الى 24 شهيداً من بينهم 6 نساء، وجرح 134 شخصاً بينهم 14 امرأة و12 طفلاً.
هذه المواجهات دفعت الأمين العام لـ"حزب الله"، نعيم قاسم، الى تجديد التمسك بثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة التي وضعت حداً لإسرائيل من أن تصل إلى بيروت"، معلناً رفضه تمديد مهلة الانسحاب الإسرائيلي "ولا ليوم واحد". فيما أشاد، في الوقت عينه، بدور الرئيس جوزاف عون وما قام به الجيش اللبناني، قائلاً: "رئيس الجمهورية لا يمكن أن يعطي لإسرائيل مكسباً واحداً، وقد شاهدنا كيف أعطى تعليمات للجيش بمساندة العائدين ومواكبتهم". كما سُجل موقف آخر للحزب جاء على لسان نائبه ابراهيم الموسوي الذي قال "هذا شعبنا يفرض في الجنوب معادلة الجيش والشعب والمقاومة، سواء رضي من رضي، أو أبى من أبى، وإن لم يسطروها في البيان الوزاري، فقد سطرت من خلال الزحف الشعبي، وفاء لدماء الشهداء".
في المقابل، لا يزال تشكيل الحكومة متعثراً بسبب وضع العثرات أمام الرئيس المكلّف نواف سلام وتكبيله من قبل القوى السياسية بالشروط والشروط المضادة رغم حاجة البلد الماسة الى اطلاق العملية السياسية وهو ما عبر عنه صراحة الرئيس عون الذي شدد على أنّ "الدول تضع شرطاً أساسياً لمساعدة لبنان يتمثل بتشكيل حكومة والبدء بإصلاحات اقتصادية ما يشكل المدخل لاعادة بناء جسور الثقة بين لبنان والخارج وعودة الاستثمار إلى ربوعه". مشدّداً على أنّه "ما لم نقم نحن بالاصلاحات في الداخل فلن يأتي الخارج الى لبنان، والكرة اليوم في ملعبنا".
وعلى المقلب السوري، اتفق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الذين اجتمعوا في بروكسل، أمس، على "خريطة طريق" لتخفيف العقوبات التي فُرضت في عهد الرئيس السابق بشار الأسد، معربين عن رغبتهم في المساعدة في إعادة إعمار الدولة التي مزقتها الحرب وبناء علاقات مع قادتها الجدد، وفق ما أعلنت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد. وإذ من المتوقع أن تستضيف فرنسا في 13 شباط/ فبراير المقبل، النسخة الثالثة من مؤتمر العقبة، الذي يجمع شركاء دوليين لدعم سوريا وضمان تنفيذ تدابير الانتقال السياسي وضمان الأمن. رحب وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، بالقرار ووصفه بـ"الخطوة الإيجابية"، معرباً عن أمله بأن "ينعكس على جميع مناحي الحياة للشعب السوري ويؤمن التنمية المستدامة".
في غضون ذلك، أبلغ مصدر روسي مطلع "الشرق الأوسط"، بأن وفداً روسياً رفيع المستوى، سوف يصل إلى دمشق "في القريب العاجل"، لإطلاق حوار شامل يتناول كل الملفات المطروحة على أجندة الطرفين. الوفد الذي يرأسه ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيبحث في سوريا، بشكل رسمي للمرة الاولى العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، بعدما كان التواصل بين الجانبين قد اقتصر على قنوات عسكرية ودبلوماسية مغلقة.
وغلبت تصريحات ترامب ودعوته لتهجير أهل غزّة على عناوين ومقالات الصحف الصادرة اليوم، ونرصد في جولة اليوم:
اعتبرت صحيفة "الخليج" الاماراتية أن اقتراح الرئيس الأمريكي حول تهجير الفلسطينيين "يشكل امتداداً لمخططات قديمة فاشلة لم تحقق هدفها على مدى أكثر من 76 عاماً، لا بالتوطين ولا بالتهجير ولا بالتفريغ، وهو بالمطلق غير قابل للتنفيذ ومرفوض دولياً وعربياً"، مؤكدة أن "المطلوب من الإدارة الأمريكية الحالية التوقف عن طرح مثل هذه المخططات العقيمة، وأن تعمل ولو لمرة واحدة على الامتثال للشرعية الدولية وتطبيق القرارات الدولية، إذا كانت صادقة فعلاً بأنها ترغب في تحقيق السلام في المنطقة".
وتحت عنوان "تخاريف ترامب"، كتبت صحيفة "الأهرام" المصرية "مصر لم ولن تخذل أبدا فلسطين وقضيتها العادلة وموقفها المبدئي والثابت، الذي أعلنته وكررته مراراً، على نحو قاطع لا لبس فيه هو رفض التهجير القسري للفلسطينيين، حفاظا على القضية الفلسطينية، والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني"، داعية "كل الدول العربية، وجامعة الدول العربية، الى المسارعة في إعلان موقف واضح إزاء تلك التخاريف الترامبية السخيفة والمرفوضة"، على حد قولها.
وشددت صحيفة "الدستور" الأردنية على أن تصريحات ترامب "التي تتماهى مع تطلعات الفاشيين الإسرائيليين والداعية إلى تفريغ غزّة من سكانها عبر إجبار الدول المجاورة على استيعابهم، تتناقض مع الروابط التاريخية والثقافية العميقة التي تربط الفلسطينيين بأرضهم"، واضعة اياها في إطار تقديم "دعم مباشر لسياسات إسرائيل التوسعية، التي تسعى بشكل منهجي إلى تفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها لصالح مشاريعها الاستعمارية الاستيطانية بهدف إحلال الإسرائيليين مكان الفلسطينيين".
من جهتها، رأت صحيفة "عُمان" العمانية أن "العرب سيواصلون توجههم السابق، وهو الدفع بـ"حل الدولتين" إلى التنفيذ؛ لا سيما مع التوجه العالمي الذي قد يجبر إسرائيل عليه". وأردفت: "عليهم (أي العرب) أن يدركوا بأن "طوفان الأقصى" غيّر من الخارطة الجيوسياسية للشرق الأوسط، وأصبحت تتشكل من جديد، من دون أن تكون إسرائيل هي اليد الضاربة فيه بعدما هزتها الحرب بقسوة".
وفي موقف مماثل، نبهت صحيفة "الراي" الكويتية من عواقب مثل هذه السياسة التي "ستمتد إلى ما هو أبعد من غزّة، مما يتسبب بأزمة إنسانية حادة ويزعزع استقرار المنطقة بأكملها، مؤكدة أن "إجبار الفلسطينيين على الانتقال إلى دول مجاورة من شأنه أن يؤجج التوترات الإقليمية ويجهد العلاقات الدبلوماسية، مما يجعل من المستحيل تقريباً التوفيق بين سياسات التهجير وجهود السلام الإقليمية الأوسع نطاقاً".
في سياق مختلف، تساءلت صحيفة "الوطن" البحرينية "هل سيتمكّن (قائد الإدارة السورية الجديدة) أحمد الشرع من التوازن بين إرضاء الخارج وكسب الشرعية منه مع إرضاء الداخل وكسب الشرعية منه أيضاً، خاصة وأن إرضاء الخارج سيعني رفع العقوبات مما سيُساهم في تمكين سوريا من التعافي الاقتصادي بشكل أسرع؟"، مشيرة الى أنه "يعمل في هذه المرحلة كالعنكبوت الذي يمدّ أذرعه لجهات متعاكسة تماماً محاولاً الإمساك بهذه الخيوط المتناقضة، وإفلات أي خيط من هذه الخيوط يعني أزمة كبيرة تهدّد شرعيته".
(رصد "عروبة 22")