الحوكمة والديموقراطية

هل التِّكنولوجيا غريم الدّيموقراطية؟

تتسارعُ تطوّراتُ العلومِ والتِّكنولوجيا وتتشعّبُ، وتتناسَلُ في ظلِّها الأسئلةُ بخصوصِ مَدَيَاتِها وامتداداتِها وتبعاتِها، وما قد يترتّبُ على تطبيقاتِها الصّناعيّةِ والاقتصاديّةِ واستعمالاتِها الاجتماعيّةِ والثقافيّة.

هل التِّكنولوجيا غريم الدّيموقراطية؟

من المُجْحِفِ أن يتنكّرَ المرءُ لما حملتْهُ طفراتُ العلمِ والتِّكنولوجيا من مزايا وفوائد للإنسان كما للطبيعة، وما كان للطّفراتِ إيّاها من فضائل كبرى على أنماطِ حياةِ الأفرادِ والجَماعات. بيد أنَّ هذه الطّفرات، وإن في إيجابيةِ ما حَمَلَت، قد أفرزَت ولا تزال، مخاطرَ وتهديداتٍ حقيقية، غالبًا ما يتمُّ التستُّرُ عليها، أو التّسليمُ بضرورةِ وضعِها على محكِّ المُساءلةِ والنَّقد.

لا نعْدمُ الأمثلة على ذلكَ بالمرّة، إذ حتميّةُ "الأعراضِ الجانبية" للعديدِ من التّطبيقاتِ العلميّة على الإنسان (في المجال الطبّي والصيدلي مثلًا)، أو على الطبيعة (فيما يتعلّق باضطرابِ المُناخ وتلوّث البيئة أساسًا)، لا يوازيها إلّا الجدل الواسِع الذي أجَّجَتْهُ تجارِبُ الاستنساخِ البشري والحيواني أيضًا، وكذا الإشكالات الكبرى التي اسْتَتَبَعَت عمليات التّحويلِ الجيني للأعضاءِ والمكوّناتِ وغيرها.

لا تستطيع الآلة الديموقراطية الوقوف في وجه منطق الشّركات الكبرى ولا الحيلولة دون السّقوط تحت رحمة لوبيّاتها

ولذلك، فإنَّ التِّكنولوجيا بهذه الزّاوية، إنّما تَرْفَعُ بوجهِ الدّيموقراطية، ثلاثة تحدّيات كبرى، تبرزُ لدى كلّ تطورٍ علميّ وتتجدَّدُ عند كلّ تطبيقٍ تكنولوجي:

- التحدّي الأوّلُ، يتمثّلُ في خاصِّيَّةِ الاستقلاليّة التي ينحو بجهتِها البُعدُ العِلمي في العملية التّكنولوجية، وجنوحُه المستمرّ لتجريدِ العمليةِ إيّاها من "إكراهاتِ" المجتمعِ أو الثقافةِ أو الأخلاقِ أو ما سواها. العلمُ هنا، وما يترتّبُ عليه من تراكمٍ تِكنولوجيٍ وتطبيقٍ صناعيٍّ، ليس مُطَالَبًا - أو هكذا يقدّم - بأن يفكّرَ فيما يرتضيه المجتمعُ أو تقبلهُ الثقافةُ أو تستسيغهُ الأخلاق، بقدرِ ما يتطلّعُ إلى الاشتغالِ خارجَ محيطِها والعملِ بتجرُّدٍ عن منظومتِها. إنّه يراهنُ على أن يشتغلَ بمعزلٍ عما ارتضاهُ النّاس وتوافقوا بخصوصِه.

أمّا عندما يعترضُ المجتمعُ أو الثقافةُ أو الأخلاق، على ما يستنبتُهُ العلمُ أو تُطَوِّرُهُ التِّكنولوجيا، فإنّ ذلك إنّما يدخلُ في إطارِ تجاذباتِ أيّ من الطرفَيْن يُحدِّدُ توجّهَ الآخر، يرسُم الحدود، يسطِّرُ الخطوطَ الحمرَ ويقودُ العمليةَ في صَيْرُوراتِها الكبرى.

لا يبدو المستوى الدّيموقراطي هنا عاجزًا عن المسايَرةِ فحسب، بل هو موزعٌ بين توجّهَيْن اثنَيْن على شفا نقيض: فهو لا يستطيعُ إيقافَ مدِّ البحثِ العلمي والتطوّرِ التّكنولوجي، إن هما تعارضَا مع القيمِ السَّائدة، ولا يستطيعُ في الوقت عينه إرضاءَ "نزواتٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ وأخلاقية" قد يكونُ من شأنِها تعطيلُ مسلسلٍ في التّطورِ تُحرِّكهُ البحوثُ وتُذكّيهِ تطبيقاتُ التِّكنولوجيا.

- التحدّي الثّاني، الذي يضعُ الديموقراطيةَ على محكِّ البحثِ العلمي والإبداعِ التّكنولوجي، ويكمنُ في الطبيعةِ الرّأسماليةِ المُلازِمةِ لعملياتِ البحثِ العِلمي ومسالكِ التطويرِ التكنولوجي، وخضوعِ النتائجِ والتطبيقاتِ المترتّبةِ عليهما، لمنطقِ المردوديَّةِ والرِّبحيَّةِ ودورةِ رأسِ المال.

توظيف مُخرجات التطورات التكنولوجيّة للتضييق على الحرّيات أو التحايُل على بنوك المعطيات لأغراض تجارية أو اقتصادية

لا تستطيعُ الآلةُ الديموقراطيةُ الوقوفَ في وجهِ هذا المنطِق، منطق الشّركاتِ الكبرى، ولا الحيلولة دون السُّقوط تحت رحمةِ لُوبِيّاتِها المُتَجَذِّرة. أمّا إذا تسنّى للآلةِ إيّاها ذلك، ولو جزئيًّا، فغالبًا ما يكون تحت مُسَوِّغ "تأجيلِ التطبيقاتِ العمليةِ إلى حين"، أو مبّرر "ضرورةِ الانتظارِ لحين اختمارِ العمليةِ اجتماعيًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا".

نحن هنا إنّما بإزّاءِ مجموعاتٍ اقتصاديةٍ كُبرى ذاتِ مصالح فئوية متشعّبة، تحتكمُ إلى مصادر في القوّة واسعة، أعضاؤها غيْرُ منتخبين ومجالسُ إداراتِها غير خاضعة للمحاسبة أو للمساءلة "المواطِناتيّة" الخالِصة. ومع ذلك، فهي التي تقرّرُ في حالِ وطبيعةِ وصيرورةِ البحثِ العلميّ والتطوّرِ التّكنولوجي، ببلدانِها الأصلية كما بباقي بلدانِ المعمور.

- أمّا التحدّي الثّالث، فمؤدّاهُ التوظيفُ المُتزايد، من لَدُن الدولة، كما من لَدُن العديد من المؤسَّسات الأخرى، لمُخْرَجَاتِ التطوراتِ التكنولوجيّة، بغرضِ التضييقِ على حرّيات الأفرادِ والجماعات، أو مراقبةِ تحركاتِهم، أو التحايُلِ على بنوكٍ للمعطياتِ تخصُّهم، لأغراضٍ تجاريةٍ أو اقتصاديةٍ أو ما سواها.

التِّكنولوجيا تصبح صانعة المجتمعات لا صنيعتها

لا يرومُ التّلميحُ هنا فقط إلى تحريفِ وظيفةِ الإنترنت الاستخباراتيّة مثلًا، ولا إلى البرامجِ المعلوماتيّةِ المُسْتَخْدَمَةِ للتجسُّسِ على الأفرادِ والجماعاتِ في حلّهم وترحالِهم، ولكن أيضًا إلى نَمْذَجَةِ بُنوكِ المعطياتِ وترتيبِ الأفرادِ والمواطنين وِفق مواصفاتِهم كمستهلِكين لا كمواطنين، من المفروضِ ألّا تُخْتَرَقُ هويَاتُهم أو معتقداتُهم أو خصوصيّاتُهم.

وعلى هذا الأساس، فإذا كان جانِبُ الحقوقِ والحرّيات، وهو مكمنُ الديموقراطيةِ بامتياز، غير مؤتمنٍ عليه، وجانِبُ الحقِّ في الخصوصيّةِ غير مُصان، فإنّ التطوراتِ التِّقنو/علميّة المتسارعة، وما يستتبعُها من تطبيقاتٍ عملية، إنّما تنبِئُ بأنّ التِّكنولوجيا قد أصبحت هي صاحبةَ القرارِ الأوّلِ والأخير، لا تأبهُ في ذلك برأيِ المواطن، أو بمداولاتِ المنتخبين، أو بما قد تكون عليه قوى الضّغط المضادّة من هنا أو هناك. إنّها تصبحُ سلعةً كباقي السِّلَع، لها منطقُها الذي يختلفُ عن منطقِ الثّقافةِ والسّياسةِ والأخلاق. التِّكنولوجيا تصبحُ هنا، صانعة المجتمعات لا صنيعتها. ألم يقل جاك إيلول يومًا: "إنّنا نعيشُ في مجتمعاتٍ صنعتها التِّكنولوجيا من أجل التِّكنولوجيا!؟".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن