مشهدُ دمشق يومَ غادرتُها، كان يحملُ بقايا ألَقِ مدينةٍ جريحة، نَزَفَت في عامَيْن متواليَيْن مئات الآلاف من سُكَّانِها. البعضُ قُتِلوا، وغيرُهم جُرِحوا وبين الاثنَيْن مئات الآلاف هَجَرُوا المدينة إلى مناطقَ شبه آمنةٍ في العمْقِ السّوري، فيما ذهبَ غيرُهم إلى الأبعدِ مهاجرين ولاجئين في أرجاءِ العالم. والجانبُ الآخرُ في مشهدِ المدينةِ آنذاك، متَّصِلٌ بالدَّمار الذي لَحِقَ بها، حيث تزايَدت معالمُ الخَرابِ وآثارُ الحربِ في المدينةِ ومحيطِها، بل إنَّ بعضَها صارَ خارجَ الحياة، مجرّدُ ترابٍ مخلوطٍ بالدّمِ والرّمادِ ورائحةِ البارودِ وذكرياتِ الأهالي، وكلّها تَرَكَتْ خليطًا من القهرِ والخوفِ من قادمِ الأيّام من اتّساعِ حجمِ القتلِ والدمِ ثمنًا لمطالبِ السوريّين في الحرّية والخلاصِ من نظامٍ مستبدّ، لا يستجيبُ لأيّ نداءٍ من أجلِ تسويةٍ ما.
أخذ وجود الاحتلالَيْن الإيراني والروسي يتكرّس وملامحُ المحتلّين من طقوس غريبة تجاوزت كلّ أنماط الاحتلالات المعروفة
بين مشهدِ دمشقَ الأوّل والثّاني زمنٌ يمتدُّ نحو اثْنَيْ عشر عامًا، مرَّت خلالها أحداثٌ وتحولاتٌ، تواصلَت وتوسّعت فيها جرائمُ النِّظام وعصاباتِه، وانضمّت للمشاركةِ في المَقْتَلَةِ والدَّمارِ إيران وروسيا، وميليشيات الأولى و"فاغنر" الثّانية، وأخذ وجودُ الاحتلالَيْن يتكرّسُ في أنحاءِ المدينةِ وخلاياها الضيّقة، وكان فيها ملامحُ تؤشِّرُ إلى بؤسِ معالمِها العامَّةِ الشّديد، بخاصة وسط المدينة مثل ساحةِ المحافظة وسورِ جامعةِ دمشق وواجهةِ محطّةِ الحجاز وسوقِ الحميديّة وساحةِ الجامع الأموي. كانت ملامحُ السُّكان لا تقلُّ بؤسًا، الظّاهرُ فيها بعضُ ملامحِ المحتلّين من بضائعَ ووجوهٍ وأزياءَ وهتافاتٍ وطقوسٍ غريبة، تجاوزَت كلّ ما يمكنُ تصوّره في أنماطِ الاحتلالاتِ المعروفةِ والشَّائعة، فيما أحوالُ سكّانِها الأصليّين يسودُها بؤسٌ وخوفٌ يتجاوزُ الحاضرَ إلى مستقبلٍ لا ملامِحَ خلاصٍ فيه، مما عزَّزَ إحباطًا ويأسًا من حلًّ وعلاجٍ، جعلَ وحشيةَ وصَلَفَ نظامِ الأسد وحلفائِه من روسٍ وإيرانيّين، وكأنّهما قدر السّوريين وبعض العالمِ من حولِهم، ما عدا قلَّة بقيَت لديها لسببٍ أو آخرٍ آمالُ الخَلاص.
كان زمنُ المشهدِ الثّاني بعد قليلٍ من سقوطِ نظامِ الأسد في دمشق، وقد كانت المدينةُ مَرْمِيَّةً على قِمَّةِ خرابٍ تصاعَدَ طوالَ عقدٍ ونصف العقد من كوارثَ ومعاناةٍ غير مسبوقة، آثارُها الأشدّ حاضرةٌ في أحيائِها والضّواحي المدمَّرة بصورةٍ كلّيةٍ مثل جوبر وداريّا، وفي وجوهِ سكانٍ يعانون غيابَ الاحتياجاتِ الأساسيّة أو نقصِها من طعامٍ ووقودٍ ومواصلات، وانهيارًا شاملًا في مؤسَّسات وأجهزة النّظام بما فيها حواجزُه التي كانت تُقَطِّعُ أوصالَ المدينةِ وشوارعها، قبل أن تختفيَ فجأةً مع اجتياحِ سجون وفروع المخابرات ومعسكرات الجيش في انفلاتٍ مضبوط، كما وصفَه الكثيرون، منعَ نفسَه من التحوّلِ إلى هيجانٍ وثورانٍ مدمِّرَيْن، يضاعفُ الخراب، بل كان مجرّد تعبيرٍ عنهما، خَرَقَتْهُ في بعضِ المناطقِ والمواقعِ جرائم، تَشارَكَ في ارتكابِها سُرَّاقٌ ومخرّبون وفلولٌ من النّظام، وأخطاءٌ ارتكبَها غاضبون من النّاس.
تخوّفات وهواجس يتمّ تداولها ويُعلّق عليها أغلب سكّان دمشق بالقول: الأسوأ صار خلفنا
تفاصيل جديدة رافقَت الأسبوعَ الاوَّلَ لسقوطِ نظام الأسد في دمشق، كان مظهرُها الأوّل والأهمّ خليطًا من الفرحِ والدهشةِ اجتاحا السكّان، وهم يشاهدون انهيارَ النّظام واختفاءَ أدواته ورموزِه من مدينتِهم وحياتِهم، وزادَ على فرحِهم ودهشتِهم تصاعدُ إيمانِهم بأنَّ آفاق تطوّرِ حياتِهم صارَ مفتوحًا لمعالجةِ تداعياتِ الماضي ومشاكلِ الحاضر لأخذهِم إلى مستقبلٍ أفضل، على الرَّغم من التخوّفات والهواجِس التي يتمُّ تداولُها، ويتحدّث حولها البعض، ويُعلّق عليها أغلبُ سكّانِ دمشق بالقول: الأَسْوَأ صارَ خلفنا، وبعد أن سَقَطَ النّظام سوف نُعيد ترتيبَ حياتِنا من جديد ونواجهُ مشاكلَنا ونتجاوزُها.
(خاص "عروبة 22")