المشروع العربي وآفاق المستقبل

لكي لا نظلّ "قبائل مزركشة بالحداثة"

عندما وصفَ أحدُ الملاحظين الغربيّين العالمَ العربي بـ"قبائلَ مزركشة بالحداثة" خلال حرب الخليج الثّانيَة، لم يكن يبالغُ أو يفتري على الرّغم مِن الطابعِ الأدبي لذلك الوصف. ذلكَ أنَّه لا يمكنُ تفسيرُ عديدِ المفارقاتِ التي تَسِمُ المنطقةَ العربيةَ سواءَ في تلك الفترةِ التاريخيّةِ أو بعدها إلاّ بتجاوزِ الدعايةِ الرّسميّة، والنفاذِ إلى حقيقةِ الواقعِ العربي الذي ظلّ يشهدُ تدهورًا متسارعًا.

لكي لا نظلّ

تكمنُ المفارقةُ الأساسيَّةُ في النشازِ أو التّلبيسِ أو الازدواجِ النَّاجم عن الجمْعِ بين مرجعيّتَيْن ما من تَنَائِيهِما بُدّ: مرجعية بالية تنتمي حضاريًّا إلى زمنِ الغلبةِ والقهرِ والعصبيةِ بالمَعنى الخلدوني، ومرجعية حديثة يختزلُها مفهومُ الحداثة.

وقد تمّ ذلك الجمْعُ أو المزْجُ في إطارِ التّنميقِ والتّجميل. وهي أفعالٌ تنتمي كلّها إلى حقلٍ دلاليّ مشتركٍ متّصلٍ بمحاولةِ التّظاهرِ أو الإيهامِ بما لا يعكُس حقيقةَ الواقعِ العربي الذي يبدو في تناقضٍ تامّ مع ما تروِّجُهُ الـ"بروباغَندا" الإِعلاميّة من ملامح سيادةِ القانونِ واحترامِ المؤسَّسات، فضلًا عن مواكبةِ آخر تصاميمِ الموضةِ العالميّة وأحدثِ السّيارات والهواتف النقّالة.

المؤامرات لا يمكن أن تحقّق أهدافها إلّا في وجود أرضية مساعدة لها تدفعُ النّاسَ إلى التقاعُس والخذلان

ليست وضعية العالم العربي الحاليّة قدرًا إلهيًا لا فكاكَ منه، وإنّما هي نتاجُ خياراتٍ خاطئةٍ في تدبيرِ الشّأنِ العامِّ من الممكِن تصحيحُها في صورةِ الاستفاقةِ من الغيْبوبةِ التّاريخيةِ التي فوَّتَتْ على المجتمعاتِ العربيّةِ فرصَ الإسهامِ الفعّالِ في التحوّلاتِ الكبرى التي يشهدُها العالمُ، فَصَيَّرَتْهُ "قريةً كوْنيّةً" تتدفّقُ فيها المعلوماتُ تدفّقًا سريعًا لا سابقَ له.

لا شكَّ أنّ الاستفاقةَ من تلك الغيْبوبةِ المُزْمِنةِ لا يمكنُ أن يحدثَ من دونِ تحرّرٍ ذاتيّ من الصَّنَمِيَّةِ الذّهنيةِ والتّاريخيةِ التي تتجلّى في شكلِ سلسلةٍ من المسلّماتِ والاعتقاداتِ الخاطئةِ قابعة في المخيالِ الفردي والجمْعِي وتتوارثُها الأجيالُ العربيةُ جيلًا عن جيلٍ من دونِ أنّ يتمَّ التحرّر مِنها مثل مقولةِ "الفرقة الوحيدة النّاجية" التي شكّلت "براديغم" أو نموذجًا إرشاديًّا يُهيْمنُ على العقلِ السّياسي العربي، وما صورةُ الزعيمِ الأوحدِ الذي لا يشقُّ له غُبار إلاّ ثمرة من ثِمارِها الفاسِدة. ولعلَّ الشيء عينه يمكن قولُه عن الاعتقادِ في "المهدي المُنتظر".

لم تكن سلسلةُ الإهاناتِ والهزائمِ والإخفاقاتِ التي عرفتها المنطقةُ العربيةُ بسببِ خطورةِ المؤامراتِ واستمراريّتها فقط مثلما حَرِصَت السَّرديّات الكثيرة على ترديدِه وترسيخِه، لأنَّ المؤامراتِ لا يمكنُ أن تنجحَ وتحقّقَ أهدافَها إلّا في وجود أرضيةٍ مساعدةٍ لها تدفعُ النّاسَ إلى التهاوُنِ والتقاعُسِ والخذلان، وإنّما كذلك بحُكْمِ أنَّ الانكساراتِ والمصائبَ التي ألْحقناها بأنفسِنا شكّلَت مهادًا لهزائمِنا المُدوِّيّة. وبما أنّ حالةَ الكسلِ الفكري وغيابَ ثقافةِ الاعترافِ بالأخطاءِ شائعة، فإنَّه يسهُل تحميل الآخرين مسؤوليّةَ الفشل. ولئِن شكّلَ اعتراف الزّعيم الرّاحل جمال عبد الناصر بهزيمة يونيو/حزيران 1967 واستعداده لتحمُّلِ مسؤوليتِها استثناءً في التاريخِ السياسيّ العربيّ، فإنّه ولسوءِ الحظّ لم تستِفدْ مصر والمنطقة العربية من تلك المصارحة لفتحِ مرحلةٍ جديدةٍ في عقلنَةِ العملِ السّياسي وحوْكمتِه. إذْ اقتصرَت الاستفادةُ على نصرٍ عسكريّ جزئيّ خلالَ حربِ أكتوبر/تشرين الأوّل 1973.

إنَّ استئنافَ عهدِ إبداعٍ حضاريّ عربيّ جديد يظلُّ حُلمًا بعيدَ المنالِ ما دام التّعاملُ الانتقائيّ مع الحداثةِ بجميع أبعادِها يُهيمنُ على التّفكيرِ والعملِ العربيّيْن. بينما الحداثةُ ضرورةٌ تاريخيةٌ ووحدةٌ متجانسةٌ لا يمكنُ الاصطفافُ للظّفرِ بمكتسباتِها التّقنيةِ والتِّكنولوجيّةِ سواء أكانت عسكريةً أم مدنيةً، ورفضُ منطلقاتِها وأُسُسِها القائمة على رفضِ الوثوقيّةِ والصَّنميةِ والجمود، إذ تُعَدُّ إبداعًا بشريًّا قائمًا على التعدُّدِ والتنوّعِ والإيمانِ بالإنسانِ الحقّاني على الرَّغم من عديدِ التّحيُّزاتِ الغربيةِ التي تجعلُ مثلَ هذه المقولاتِ شعاراتٍ خاصّة بالغربيّين ومن ثمّة محلَّ نظرٍ وجدلٍ وتدبّر.

نحتاج إلى عدم الخلْط بين السياسات الغربيّة الخاطئة في دعمها لإسرائيل والحداثة التي مكَّنت تلك القوى من التفوّق

تظلّ إمكانيةُ صياغةِ حداثةٍ حقيقيَّةٍ تنسجمُ مع خصوصيَّات المجالِ التداوُلي العربي الإسلامي احتمالًا ممكنًا إذا ما تمَّت إعادةُ قراءةِ النصِّ الدّيني قراءةً تحرّريةً تُرَكِّزُ على طبيعةِ رسالةِ الإسلامِ المؤكِّدَة على بلوغِ الإنسانِ مرحلةَ الرّشدِ العقلي والأهليّةَ لتحمّلِ مسؤوليتِه الوجوديّة باختتام النبوَّة. ونعتقدُ أنَّ هذا يتقاطعُ ضمنيًَا مع ما ذهبَ إليه المفكّرُ الكندي تشارلز تايلور حينَ أقرَّ بوجودِ حداثاتٍ متعدّدة، وبأنَّ لكلِّ ثقافةٍ حداثتها الخاصَّة بها.

إنّ الحاجةَ اليوم إلى عدمِ الخلْطِ بين السياساتِ الغربيّةِ الخاطئةِ في دعمِها المُطلقِ لإسرائيل في إبادتِها الجماعيّةِ بغزّة، والحداثة التي مكَّنت تلك القوى من التفوّقِ التِّكنولوجي والعسكري والاستراتيجي والإعلامي، أحد المفاتيحِ المهمّة لتجاوزِ مرحلةِ القبائلِ التي تتزيَّنُ بالحداثة!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن