توعّد ترامب بفرضِ الرّسوم والضّرائب على الدّول الأجنبية لإثراءِ المواطنين الأميركيّين حسب تصورِه، وأعلن نيّتَه ضمَّ جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك، وإعادة السّيطرة على قناة بنما، وفَرَضَ بالفعلِ رسومًا جمركيةً بنسبة 10% على الوارداتِ من الصّين، بعد أن كان قد هدّدَها خلال حملتهِ الانتخابيّة بفرضِ رسومٍ جمركيةٍ على وارداتِ بلادِه منها بنسبة 60%، وهدَّدَ كلّ الدّولِ الحليفة وغيرِ الحليفةِ بفرضِ رسومٍ جمركيةٍ عليها، وخصّ أهمَّ شريكين اقتصاديَيْن لبلادِه كندا والمكسيك اللتين تستقبلان 34% من الصّادراتِ السِّلعيّةِ الأميركيّة، بتهديداتِه الاقتصاديّة!
كَوْمَة من الإجراءات وإعلانات النّوايا تعكس حالةً من الاضطراب وعدم حساب العواقب
كذلك طالبَ دولَ حلف شمال الأطلسّي "الناتو" برفع إنفاقِها العسكري إلى 5% من نواتِجها القوميّة، أي أكثر من ثلاثةِ أمثال مستواها الحالي في المتوسِّط. كما خرجَ من اتفاقيّةِ المناخ، ممّا يعني إطلاقَ يدِ المُستثمرين في بلادِه لتلويثِ البيئةِ وتخريبِ الكوكب من دون رادِع، وانسحب من منظّمة الصحّة العالميّة، ورفعَ العقوباتِ عن مجرمِي المستوطنين في الضَّفَّةِ الغربيَّة، وأعلن نيتَه ترحيلِ مليون من مواطني فلسطين إلى مصر والأردن. كما طالب شركاء بلادِه بالاستثمار فيها ليس بناءً على الاختيار الحرّ القائمِ على جذْب الاستثماراتِ بميزات السّوق والامتيازاتِ الماليّة، بل بالتّهديد والضّغط. وحتَّى إعلان السّعودية عن خطةِ استثمار 600 مليار دولار في الولايات المتحدة خلال 4 سنوات، لم يسدّ نَهَمَ ترامب الذي طالبها باستثمار تريليون دولار! كما أعلن نيتَه العمل على تخفيضِ سعرِ النّفط والغاز.
هذه الكَوْمَةُ من الإجراءاتِ وإعلاناتِ النّوايا وغيرِها في مجالاتٍ أخرى مثل منعِ الإجهاضِ وترحيلِ المهاجِرين وتقييدِ مَنْحِ الجنسيةِ الأميركية في أمَّةٍ مكوَّنةٍ من المهاجِرين أصلًا، تعكس حالةً من الاضطرابِ وعدم دراسةِ وحسابِ العواقب التي يمكن أن تؤدّي إليها.
الحماية الجمركيّة تستنهض العقوبات المُضادّة والشعب الأميركي الخاسِر الأكبر
يتصوَّرُ ترامب أنَّ بلادَه مطلقة القدرات، وأنَّ القوةَ العسكرية العملاقَة التي تملكُها ستجبِرُ الدولَ الأخرى، سواء كانت حليفةً أم معاديةً، على الاستجابةِ لابتزازِه. لكنّ الأمرَ ليس كذلك.
الصين لديها القدرة على معاقبة من يعاقبها
لو أخذْنا التجارةَ السّلعيّة، فإنَّ الصينَ وهي ثاني أكبر دولةٍ مستوردةٍ للسّلع، إذا تعرَّضت لأي إجراءاتٍ تجاريّةٍ عقابيّة، لديها القدرة هي الأخرى على معاقبةِ من يعاقبها. وقد بلغت قيمةُ الوارداتِ الصّينيةِ من الولايات المتّحدة نحو 154 مليار دولار عام 2022، وهي تعادلُ أكثر من 7% من الصّادرات الأميركية، وتؤمِّن نحو 1,2 مليون فرصة عمل، فضلًا عن نحو مائتيْ ألف فرصة عمل توفِّرُها الشّركات الصينيةُ التي وطّنَت استثماراتِها في الولايات المتّحدة. كما أنّ الوارداتِ الأميركيةَ من الصّين التي بلغت نحو 537 مليار دولار عام 2022، تؤمِّنُ للصّناعاتِ الأميركية مدخلاتِ إنتاجٍ وسلعٍ وسيطةٍ وحتى استثمارية بأسعارٍ منخفضةٍ تساعد تلك الصناعات على تحسينِ قدرتِها التنافسيّة في السّوق الأميركيّة وفي الخارج. وتؤمِّنُ كذلك للمستهلكين الأميركيين سِلَعًا استهلاكيةً نهائيةً بأسعار منخفضة، مما يعني أنّ أيّ رسوم جمركية إضافية على الوارداتِ الأميركية من الصّين سوف تؤدّي لرفعِ أسعارِ بعضِ مدخلاتِ الإنتاج والسّلعِ الوسيطةِ والسّلعِ الاستهلاكيةِ النهائيةِ بما سيسهمُ في رَفْعِ معدّلِ التضخُّم على عكسِ ما وعدَ به ترامب من تخفيضِ هذا المعدّل.
كما أنَّ الصّينَ ستردُّ بإجراءاتٍ عقابيةٍ مضادّةٍ ستضرّ بالصّادراتِ الأميركية للسّوق الصّينيّة وبفرصِ العملِ المرتبطةِ بها. وقد جرّبت الولايات المتحدة فرضَ القيودِ على صادراتِها من الرّقائقِ الإلكترونيّة وأشباهِ الموصلات للصّين، فردَّت الأخيرةُ بتقييدِ صادراتِها للولايات المتّحدة من المعادنِ النّادرة اللازمةِ لصناعتِها. وتمكّنت الصّينَ خلال السنوات الماضية تحت ضغطِ الابتزازِ والعقوباتِ الأميركية من تنويعِ أسواقِ صادراتِها السّلعيّة التي بلغت نحو 3594 مليار دولار عام 2022، والتي تستوعبُ السّوق الأميركيّة نحو 15% منها. علمًا أنها يمكنُها الالتفاف على أي عقوباتٍ بالتصديرِ عبر دولٍ ثالثة، مثل فيتنام.
تخفيض سعر النّفط يهدّد المصالح العربية وقطاع النّفط والغاز الصخريَيْن في أميركا
خلال حملتِهِ الانتخابيةِ، وَعَدَ ترامب بتخفيضِ أسعارِ الطّاقةِ للنّصف، وبعد فوزِه اعتبر أنَّ هذا التخفيضَ سيُنهي الحربَ الأوكرانيةَ من خلال تخفيضِ عائداتِ روسيا من صادراتِها من النّفط والغاز. لكنَّه يتجاهلُ حقيقةَ أنَّ قطاع النّفط والغاز في روسيا والدول العربيّة سيتضرَّرُ من انخفاضِ الأسعار، لكنّه سيستمرُّ في تحقيقِ الأرباح، بينما لا يستطيع قطاعُ النّفط والغاز الصخريَيْن في الولايات المتّحدة تحمُّلَ مثل تلك الصدمة، حيث سينهارُ هذا القطاع إذا انخفضَ السّعر عن 50 دولارًا للبرميل، وبالتّالي فإنّ المصالحَ الأميركية نفسها تقتضي الحفاظَ على أسعارِ النّفط فوق 60 دولارًا للبرميل على الأقلّ حتّى تستمرَّ تلك الصناعة التي تؤمِّنُ ملايين الوظائف المباشِرة وغير المباشِرة.
وكان تطويرُ استخراجِ النّفط والغاز من الصّخورِ المشْبعةِ بهما قد أدّى إلى رفعِ الاحتياطيّات الأميركيّة من النّفط من 19,1 مليار برميل عام 2009 إلى 79,1 مليار برميل عام 2022، وينتجُ هذا القطاعُ نحو 8,5 ملايين برميل يوميًّا. كما رفعت احتياطيّها من الغاز الطبيعي من 6928 مليار مترٍ مكعبٍ عام 2009 إلى 16392 مليار مترٍ مكعبٍ عام 2022.
لو مضى ترامب في فرض المزيد من الرسوم الجمركيّة فسيُشعل صراعات تجاريّة تهدِّد استقرار الاقتصاد العالمي
قد يتمكّنُ ترامب من جذْب استثماراتٍ أجنبيةٍ لبلاده بالضّغط والابتزاز، لكنَّها استثمارات في السّندات غالبًا، أي نوع من الإقراضِ للدولةِ الأميركية وهي ضمنَ استثماراتِ الحافظة، وليس الاستثمار المباشر الذي يعوقه ارتفاعُ تكاليفِ الإنتاجِ مقارنةً بالبلدان الأخرى. ولو مضى في مسارِ فرضِ المزيد من الرسومِ الجمركيّةِ، فإنَّه سيُشعلُ صراعاتٍ تجاريّةً تهدِّدُ استقرارَ الاقتصادِ العالمي، وأوَّل من سيعاني منها هو الشعب الأميركي نفسُه، ولو عملَ على تخفيضِ أسعارِ النّفط بشكلٍ غير محسوبٍ، فإنّه يمكنُ أن يوقعَ اضرارًا جسيمةً بقطاع النّفط والغاز الصخريَيْن في بلاده.
إجمالًا، لو سارت إدارة ترامب على دربِ تصريحاتِه، فإنّها ستثيرُ اضطراباتٍ ولن تُفْلِحَ في استعادةِ الهيمنةِ الاقتصاديّةِ العالميّةِ التي فقدت غالبيّة أسبابِها بلا رجْعة.
(خاص "عروبة 22")