في ديسمبر/كانون الأوّل 1999، حاول مسلسلٌ تلفزيوني يحملُ اسمَها، للسيناريست محفوظ عبد الرحمن ومن إخراج إنعام محمد علي، أن يجيبَ عن هذا السّؤال: كيف تسنّى لفتاةٍ ريفيّةٍ لم تنَل حظًا كبيرًا من التّعليم، أن تكتسبَ المكانةَ الاستثنائيةَ التي وصَلَت إليها؟.
في حرب فلسطين تمنى ضبّاط وجنود الكتيبة السادسة عليها غناءَ "غلبت أصالح في روحي" للاستماع إليها في خنادقهم
إنّها عبقرية إدارة الموْهبة، حافظَت على مقوّمات شخصيّتها، طوَّرَتْها بالدّرس والتعلّم، وأحاطت نفسَها بكبارِ مثقفي عصرِها. ارتبطت بالقضيّة الفلسطينيّة... وكانت صوتًا لإرادةِ المقاومةِ في حروبِ مصر.
في حرب فلسطين، طرأَ لضبّاط وجنود الكتيبة السادسة أن يتمنّوا عليها غناءَ أغنية "غلبت أصالح في روحي" للاستماعِ إليها في خنادقِهم، سلَّمها ضابطٌ تلك الرغبة في رسالةٍ داخل مظروف، وهي تهمُّ بدخول مسرح حديقة الأزبكيّة يوم 3 فبراير/شباط 1949.
كانت تتابعُ من الصحف المصريّة بطولات الكتيبة المُحاصَرة في الفالوجا، التي رفضت الاستسلام وقرّرت القتالَ حتى آخر رجل. عدَّلت برنامجَها لتستجيبَ لطلبِ الأبطالِ المحاصَرين.
بعد فرضِ الهدنة، عاد المقاتلون إلى القاهرة وزاروها في بيتِها شكرًا وامتنانًا.
مَنْ كتب الرّسالة؟... أو بالأحرى: مَنْ وراءها؟
على الأرجح إنّه جمال عبد النّاصر، لاعتبارَيْن أساسيَيْن: أوَّلُهُما، من ناحية الانضباط العسكري يصعبُ على أيّ ضابط أن يُقْدِمَ على هذه الخُطوة باسم الكتيبةِ من دونِ إذْن قائدِها الأميرالاي السيّد طه الملقّب بـ"الضّبع الأسود"، أو البكباشي جمال عبد الناصر رئيس هيئة أركانِها. وثانيهما، أنّ عبد الناصر اشتُهر عنه في محيطِه الإنساني أنَّه "سمّيع"، يردِّدُ في خلواتِه بعض المقاطع الغنائيّة لـ"أم كلثوم"، أو محمد عبد الوهاب.
احتمالُ أن يكون صاحب الاقتراح السيّد طه، شبْه مستبعد.. واحتمالُ أن يكون عبد النّاصر، شبْه مؤكّد.
كانت نظرة عبد الناصر إلى "أم كلثوم" هَرَمًا النَّيْلُ مِنه بالمنْع والحجْب جهلٌ وتعسفٌ وإساءةٌ بالغة للثّورة
بعد ثورة يوليو 1952، بدا لقائدِ قوّة الحماية في الإذاعة المصريّة أن يمنعَ بثّ أغنية أم كلثوم "وُلد الهدى"، وربّما أغانيها كلّها، بذريعةِ أنّها تنتمي إلى العصرِ البائدِ وأنّ الثّورة ألغَت المَلَكيّةَ وألقابَ الأمراء معترضًا على كلماتٍ وردت في القصيدة المغنّاة لأمير الشعراء أحمد شوقي - حسب مذكّرات غير منشورةٍ لمؤسِّس "صوت العرب" أحمد سعيد.
فورَ أن علِم عبد الناصر بالواقعة حتى اتّصل بقائد قوّة الحماية موبّخًا: "لماذا لا تجمَع قواتك وتذهب لهدْم الهرم الأكبر، باعتبارِه ينتمي للعهد البائِد"؟!
كانت نظرته إلى "أم كلثوم" هَرَمًا النَّيْلُ مِنه بالمنْع والحجْب جهلٌ وتعسفٌ وإساءةٌ بالغة للثّورة.
في حرب السويس 1956، هَرَعَت للغناءِ للمقاومة، دوَّت في أنحاء العالم العربي أغنيتها التي تحوّلت إلى نشيدٍ وطني "والله زمان يا سلاحي... اشتقت لك في كفاحي".
في أجواء "كامب ديفيد" استُبْدِل بنشيدٍ آخر حتى لا يكون هناك سلاحٌ مشرعٌ، أو كفاحٌ مرتقب!
في عام 1964، دعا عبد الناصر "أم كلثوم" و"عبد الوهاب" أن يجمعَهما عملٌ واحد.
كانت تلك الدعوة تعبيرًا عن ولعِه الشّخصي كـ"سمّيع قديم" بالفِكرة، هكذا وُلدت أغنية "إنتَ عمري"، التي أوقفت السّيْر في شارع شبرا حين بدأت مقدّمتها الموسيقيّة.
حسب شهادة الدكتور خالد عبد الناصر: "إستمعَ أبي للأغنية من راديو سيارتِه وهو متوجهٌ لاستراحةِ برْج العرب. لَزِمْنا الصّمت، فهو يستمعُ لـ"ثومة" على أنغامِ عبد الوهاب. لم نتبادَل أيّ حديث في الرّحلة على الطريق. كانت تلكَ من المرّات النادِرة التي سمحت الظروف بأن نستمع معًا لصوت أم كلثوم. كان يحفظُ اللّحن من أوّل مرّة والكلمات بمجرّد أن تجري في حنجرتِها. في الخميس الأوّل من كل شهر، كان يستمعُ - بمفردِه - لحفلةِ الستّ المُذاعة على الهواء مباشرةً أثناء قراءة التقارير الرّسمية والصحف. عندما لا تُمَكِّنُهُ ظروفُه من سماعِها يطلُب الشرائِط من الإذاعة".
حسب "خالد"، فإنّ "أم كلثوم" وحدَها، ولا أحد آخَر غيرها، كان بوسعِها أن تزورَ بأي وقت زوجةَ الرّئيس، تحية كاظم، ربطتهُما صداقةٌ امتدّت حتّى النّهاية، ولم تتغيّر طبيعةُ العلاقة بتغيّر الزّمن والأحوال.
"في أم كلثوم شهامة الرّيف المصري". كانت تلك شهادة محمد حسنين هيكل على شخصيّتِها السّاحرة.
ذاتَ حديثٍ بيْننا استعاد جانبًا مجهولًا في العلاقةِ الخاصّةِ بين "الريّس" و"السِّت".
لمرّاتٍ عديدةٍ حَمَلَت معَها إلى بيت "منشيّة البكري" أسطوانات مسجَّل عليها موسيقى أغانٍ توشِك أن تشدوَ بها، تغنّي وهو يعيدُ مقاطعَ بصوتِه.
إثر هزيمة يونيو نَظَّمَت على مدى عامَيْن حفلات دعمًا للمجهود الحربي وجَمَعَت تبرّعاتٍ وصلت قيمتُها إلى مليونَـي جنيه
إثر هزيمة يونيو 1967، نَظَّمَت على مدى عامَيْن حفلاتٍ متواصِلةً دعمًا للمجهود الحربي، شملت القاهرة وتونس والخرطوم والكويت والدّار البيضاء وبيروت وطرابلس.
ونظّمت حفلات أخرى أشهرُها حفلة باريس حيث زحفت جموعٌ عربيةٌ هائلةٌ بالطّائرات من دولٍ أوروبيّةٍ وخليجيّةٍ لتسمع "السِّت".
جَمَعَت تبرّعاتٍ وصلت قيمتُها إلى مليونَـيْ جنيه، كان ذلك رقمًا كبيرًا وقتها.
وسط أجواء الهزيمة، أنشدَت نبوءة النّصر: "سير بإيمان وبروح وضمير... دوس على كل الصعب وسير"... و"نبوءة المقاومة": "إلى فلسطين طريق واحد... يمرّ من فوهة بندقية".
عندما رحل "الريّس" في سبتمبر/أيلول 1970 أصيبت "أم كلثوم" باكتئابٍ حادّ، حبسَت نفسَها في حجرتِها، قبل أن تنشدَ من كلماتِ نزار قباني: "عندي خطاب عاجل إليك".
بعد أقل من خمس سنوات رحلت، وكانت جنازتها المليونيّة من ميدان التّحرير أكبرَ جنازةٍ تشهدُها مِصر بعد جنازة عبد الناصر مباشَرة.
كانت تلك تحيّة تلقائيّة، مستحَقّة وصادِقة لإلهام أدوار "السِّت" في حياتِنا المعاصِرة.
(خاص "عروبة 22")