لحظاتٌ تاريخيةٌ تعيشها مصر والمنطقة العربية، بل والعالم. في المنعطفات المصيرية، يتجلى المعدن الأصيل للشعوب، ويكشف الزمن عن جوهرها الحقيقي. وفي هذه الأيام العصيبة، حيث تترنح غزة تحت نير العدوان، وتواجه سيناء تهديدات غير مسبوقة، يصطف المصريون صفًا واحدًا في مواجهة الخطر.
أتابع أصوات الشارع، وأرصد نبض المنصات، فلا أجد إلا إجماعًا صادقًا: لا للتهجير، لا للتفريط، ولا لمساومةٍ تفرّغ الأرض من أصحابها. مصر، قيادةً وشعبًا، تقف على أرض صلبة، مستعدةً لمواجهة التحديات مهما تعاظمت، غير آبهة بمن يحاول ليّ ذراعها.
وهنا، لا بد من الإشادة بإدارة القيادة المصرية للأزمة، إذ تسير بخطًى واثقة، وموقف ثابت لا يعرف التراجع، يجمع بين الحزم والحكمة. لاءات مصرية صريحة، وخطوط حمراء تُرسم في وجه أعتى القوى، وخطاب سياسي رصين، لا ينزلق إلى المهاترات، بل يتمسك برؤية عقلانية لحل القضية الفلسطينية، رؤية لا تُقايض بمكاسب آنية، ولا تنجرف إلى نقاشات عبثية تتجاهل القوانين الدولية. فأي منطق يقبل بتحويل غزة إلى "ريفيرا" أو تشريد أهلها؟ مصر، كما العرب جميعًا، لا تقبل إلا بحل يستند إلى العدالة الدولية، ويحفظ الحقوق، ويصون الأمن القومي.
والمشهد العربي يبعث على الأمل. فالموقف واحد، والإرادة صلبة، والجميع من المحيط إلى الخليج قالوا كلمتهم: لا للتهجير، لا لمشاريع إعادة رسم الجغرافيا وفق هوى المحتل. موقفٌ عربي متماسك، يمكن البناء عليه ليكون للعرب تأثير في الأحداث. ورب ضارة نافعة، فقد أيقظت اللحظة المصيرية شعورًا وطنيًا وقوميًا، وقرّبت الشعوب من قادتها، وقد تكون نقطة تحول تعيد للمنطقة نظرتها إلى نفسها، من منظور عربي خالص.
نحن أمام اختبار تاريخي، لحظة لا تحتمل الحياد، لكنها قد تكون الفرصة لاستعادة القرار العربي المستقل. ولسنا ضعفاء، فنحن، ومعنا أشقاؤنا، قوة يُحسب لها ألف حساب، إن عرفنا كيف نترجم هذا التكاتف إلى واقع ملموس. ومصر، كما أثبتت الأيام، تمتلك جيشًا أصبح قوة إقليمية قادرة على ردع الأعداء، والتصدي لكل السيناريوهات، مستعدًا بأحدث العتاد، ومن خلفه شعبٌ لا يعرف الخضوع، جاهزٌ للدفاع عن مقدساته، مهما غلت التضحيات.
وعلى الضفة الأخرى، تتحرك الدبلوماسية العربية بخطًى ثابتة، تسعى لحشد الطاقات الدولية، وتعزيز الموقف العربي. وليس أجدر من القضية الفلسطينية لتكون مفتاحًا لنهضة عربية جديدة، تؤسس لفجرٍ أكثر إشراقًا، لعالمٍ عربي أكثر وحدةً وقوة، ينفض عنه غبار التشتت، ويستعيد مكانته بين الأمم.
(الأهرام المصرية)