إن كان من دلالةٍ للفرْق بين استقبال الشّرع ووداعه، فإنّها أحد مؤشِّرات نجاح الزيارة، التي تَجَنَّبَ الجانبان السوري والسعودي الحديث في تفاصيلها، واكتفى الجانبان بإشارات عامّة لا تفاصيل فيها، تاركين لمن أراد تقديرات وتوقّعات حول متغيّرات العلاقات السورية - السعودية وآفاقها في المرحلة المقبلة، التي يمكن القول إنّ الزيارة كانت مرحلة فيها، وليست بدايتها، لأنّ الشهرين الماضيَيْن من عمر العهد السّوري الجديد، كانا حافلَيْن بإشارات سورية - سعودية على توجّه الشريكين نحو علاقات وثيقة وعميقة.
كَنْسُ الوجود الإيراني وميليشياته من سوريا وإسقاط نظام الأسد بمثابة خلاص عربي وخليجي من التمدُّد الإيراني
يعتقد الكثيرون أنّ علاقات البلدين نابعة من حاجة سورية لمساعدة سعودية، واستعداد الأخيرة لدور في مواجهة تحدّيات ما تركه نظام الأسد من كوارث في الواقع السوري وخصوصًا في مواجهة الجوانب الاقتصادية - الاجتماعية من تلك التّركة. وعلى الرَّغم من أنّ في ذلك بعضًا من حقيقة، فإنّ مُوَجّه علاقة البلدين أبعد وأهمّ، وله بُعد استراتيجي من جانب السعودية وسوريا على السّواء.
لقد عانت بلدان الخليج بما فيها المملكة العربية السّعودية في العقدين الأخيرين من سياسة إيران وتمدُّدِها في المنطقة، وسعي طهران لجعل المنطقة رهينةً وسط احتمال مواجهات عسكريّة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وجاء استيلاؤها على سوريا بعد العام 2011، كمؤشر خطير في ظلّ خضوع نظام الأسد للهيمنة الإيرانية، وكان مجيء العهد السوري الجديد وكَنْسُ الوجود الإيراني وميليشياته من سوريا، وإسقاط نظام الأسد في سوريا بمثابة خلاص عربي وخليجي وسعودي من التمدُّد الإيراني، ودفع إيران وأذرعها الإقليميّة للانكفاء نحو الداخل، مما يعني تخفيف أجواء التوتّر والصّراع في الخليج وحوله، وتوفير إمكانيّة أفضل لبلدانه ولا سيما السّعودية للمضي في مشاريعها وبخاصّة مشروع رؤية السعودية 2030، والأمر الثّاني أنّ خلاص سوريا من الإيرانيّين وميليشياتهم ومن نظام الأسد، سيأخذها نحو صيغة جديدة من السِّلم والاستقرار، بدل ما كانت عليه في ظلّ حكم الأسدَيْن (1970-2024) باعتبارها دولة مارقة تمارس الضّغوط والتهديدات والتدخّلات بما فيها الدمويّة في محيطها العربي.
لقد كان كَنْسُ إيران من سوريا، وإسقاط نظام الأسد، ومجيء نظام جديد بمواصفات مختلفة حاجة سعوديّة بمقدار ما هي حاجة سوريّة، وكان من الطبيعي أنْ يحظى القائمون بما تقدّم من مهمَّات باهتمام السعودية وقيادتها، وزاده أنّ ما حدث على أهمّيته وخطورته، كلَّف أقلّ قدر من الأعباء والخسائر بخلاف التّقديرات المتوقّعة، وهذا زادَ من تركيز الانتباه على إدارة العمليات العسكرية ورئيسها أحمد الشّرع.
سوريا واحدة من قوى الاستقرار الذي تحتاجه المنطقة لأجل لجم سياسات التمدُّد والتطرُّف التي تتابعها إيران وإسرائيل
وطوَّرت التصريحات الهادئة ومحتوياتها حول سياسات العهد السّوري الجديد وعلاقاته الإقليمية والدولية تركيزها على التوافق والتعاون، وَنَبْذِ الصّراعات والابتعاد عن سياسات المَحاوِر، والتّركيز على ضرورة إخراج سوريا والسوريّين من مخلَّفات سياسات عهد الأسد وِفق نظرة إيجابية للقيادة الجديدة، دلّلت على قدرتها على اتّباع سياسات متوازِنة في السياستَيْن الداخلية والخارجية، مما يجعل سوريا واحدة من قوى الاستقرار الإقليمي الذي تحتاجه المنطقة لأجل لجم سياسات التمدُّد والتطرُّف التي تتابعها إيران وإسرائيل، وتعزيز فرص النّمو والتّقدم، التي تسعى إليها دول المنطقة ولا سيما المملكة العربية السّعودية.
ولئِن كانت سوريا بنهجِها ومسارها الجديدين، تسعى من أجل مصالحها، لكنّها في السياق ذاته تخدم مصالح غالبيّة دول المنطقة في تبريد الصراعات وتخفيفها وفي فتح آفاق نحو التنمية والتقدّم لدول وشعوب المنطقة بعد عقودٍ من صراعات دمّرت دولًا وشعوبًا، وخسرت ثروات، وفوَّتت فرصًا. ويمثل التحوّل السوري قاعدةً لتعاون إقليمي تبدو المملكة العربية السعودية محورًا أساسيًّا فيه، ممّا يجعلها الأهمّ، وليست الوحيدة بين دول في المنطقة تدعم خروج دمشق من كارثتِها الرّاهنة.
(خاص "عروبة 22")