تقدير موقف

نحو مشهد جديد في علاقات موسكو - دمشق!

خطت موسكو خطوتها الثانية باتجاه دمشق في أقلّ من أسبوعين، فكانت المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيّام مع الرئيس السوري احمد الشّرع بعد زيارة معاون وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف أواخر الشهر الماضي للعاصمة دمشق، حيث التقى القيادات السورية، وأجرى معهم مباحثات حول العلاقات الروسية - السورية واحتمالاتها المستقبلية.

نحو مشهد جديد في علاقات موسكو - دمشق!

كرّرت مكالمة بوتين مع الشّرع البحث في العلاقات الثنائية، لكن بصورة موسّعة ومعمّقة، إذ تناولت موضوعات وتفاصيل كثيرة، حسبما أكدت مصادر روسية، وأضافت أنّ بوتين أعلن حرص روسيا على علاقات روسية - سورية أفضل، مفتوحة على آفاق إيجابية لتطويرها في مجالات متعدّدة. وأعلن استعداد روسيا لتقديم مساعدات لسوريا، لا تساعد في مواجهة الظروف الراهنة فقط، بل تساعد على عملية إعادة بناء البلاد التي دمّرتها الحرب في عقد ونصف العقد من سنوات مضَت.

اتفاقات إذعان تضمنت عقود استثمار ثروات باطنيّة وسيطرة على موانئ وقواعد عسكرية تحتاج إلى تعديلات جوهرية

يبدو أنّ الأجواء الإيجابية التي عكستها مبادرة الاتصال الهاتفي، دفعت بوتين للذهاب نحو الأبعد. فوجَّه دعوة مفتوحة للرئيس الشّرع لزيارة موسكو، وأخرى لوزير الخارجية اسعد الشيباني للبحث في آفاق علاقات البلدين، والتي يُنتظر أن تتمّ في وقتٍ قريب.

اتصال بوتين وقبله زيارة بوغدانوف، يعكسان اهتمامًا روسيًّا بالعلاقات مع سوريا. ليس لأهمية سوريا وما حدث فيها وحولها في الفترة الأخيرة وكلها شديدة الأهمية بالنسبة لموسكو، بل أيضًا لأنّ موسكو معنية بتصفية تركة تدخّلها العنيف والواسع في سوريا خلال حكْم حليفها بشار الأسد، وإعادة صياغة علاقات جديدة مع العهد السّوري الجديد على نحو ما تفعل قوى إقليمية ودولية كثيرة وفاعلة في الانفتاح على سوريا بعد سقوط نظام الأسد، ومن شأن تنقية وإعادة ترتيب علاقات موسكو مع دمشق، تخفيف بعض الأعباء عن سياسة موسكو الخارجية وملفّها الرئيس في الحرب على أوكرانيا.

من الطبيعي السعي لجلب الأسد ومرافقيه من روسيا للمحاكمة أمام القضاء السّوري واستعادة ما نهبوه

غير أنّ تحسّن العلاقات الروسية - السورية يواجه تحدّيات كثيرة وجدية وفيها ثلاث ملفات ثقيلة، أولها ملف اتفاقات إذعان عقدتها روسيا مع نظام الأسد تحت الاحتلال الروسي ووسط حاجة نظام الأسد للحماية من السقوط والانهيار، تضمنت الحصول على عقود استثمار ثروات باطنيّة، وسيطرة على موانئ وقواعد عسكرية، وكلها تحتاج إلى إعادة النّظر وإجراء تعديلات جوهرية بعد إسقاط نظام الأسد، وتأسيس نظام جديد.

وتتعلق النقطة الثانية ببعض آثار التدخل العسكري الروسي، ولا سيما عمليات القتل والتدمير التي ارتكبتها القوات الروسية بخاصة في حلب وإدلب ما بين 2015 ونهاية 2024، قتلت فيها سوريين، ودمّرت أهدافًا مدنيّة بينها مشافي وأسواق ومخيمات ومساجد، مما يتطلّب قيام الروس بالاعتراف بتلك الجرائم والاعتذار عنها، وتقديم تعويضات في إطار عمليات "جبْر الضرر" الذي ألحقوه بالسوريين، وتشكِّل محتويات هذه النقطة أرضيةً تفتح ملفات جرائم الدولة والمسؤولين الروس ذوي العلاقة أمام المحاكم الدولية.

والنقطة الثالثة ذات أهمية كبرى، وتتعلق بموضوع الرئيس المخلوع بشار الأسد وبعض بطانته ممّن ذهبوا معه حاملين ثرواتهم إلى الملجأ الروسي، ولأنّ سوريا فتحت أبواب محاسبة رموز النظام السابق، فمن الطبيعي سعيها لجلب الأسد ومرافقيه من روسيا للمحاكمة أمام القضاء السّوري، واستعادة ما نهبوه من أموال الشعب السوري.

تحاول موسكو أن تتجاوز التعويضات بما تُسمّيه مساعدات إنسانية وهو تجاوز لا يجد قبولًا عند السوريين

وكما هو واضح، فإنّ نقاش التركة الروسية في سوريا واتفاق الطرفيْن على تصفيتِها عبر الاتفاق لن يكون سهلًا في أغلب موضوعاته، وقليل من الموضوعات ستُعالَج بسهولة سواء بسبب طبيعتها وظروفها مثل قضية الدّيون الروسية، التي يمكن أن تتنازل عنها موسكو كليًّا أو جزئيًّا، كما حدث في سابق العلاقات الروسية - السورية، مقارنةً بموضوعات أكثر تعقيدًا مثل استعادة بشار الأسد وبطانته لمحاكمتهم، ومثل طلب اعتراف موسكو بجرائمِها ضدّ السوريين وربطها بالاعتذار والتعويض، وقد بدا الخلاف واضحًا بين الطرفيْن في النظر إلى التعويضات، التي تحاول موسكو أن تتجاوزها بما تُسمّيه مساعدات إنسانية، وهو تجاوز لا يجد قبولًا عند السوريين.

على الرَّغم من كلّ الإرث الثقيل والتعقيدات المحيطة بعلاقات موسكو - دمشق في عهد الأسديْن، فإنّ ثمّة مؤشرات لدى الطرفين، يمكن أن تساعدهما على تجاوز ما أمكن من عقبات، وترك الصّعب منها لمعالجة لاحقة، والأبرز في المؤشِّرات الايجابية رغبة موسكو في تصفية آثار المرحلة السابقة من علاقاتها مع سوريا، وفتح خط جديد ومختلف في هذا السّياق، وهو نهج يتوافق مع استراتيجيّة العهد السوري الجديد في علاقاته الإقليمية والدولية، التي تقوم على تخفيف الخلافات والصراعات مع المحيط إلى أبعد الحدود.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن