الأمن القومي العربي

النظام الإقليمي العربي... قمّة "الفرصة الأخيرة"!

القاهرة - أحمد أبو المعاطي

المشاركة

يُزلزل مخطط التهجير الأميركي لسكان قطاع غزّة، وما قد يترتّب عليه في حالة تنفيذه من تداعيات كارثية، أركان النظام الاقليمي العربي، الذي تشكّلت ملامحه الأولى مع تأسيس جامعة الدول العربية منتصف الأربعينيّات، ويتعرّض منذ سنوات لتغيّرات بنيوية ضخمة في موازين القوى الفاعلة داخل ساحته، لصالح مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي يُطلق يد دولة الكيان لفرض هيمنتها الكاملة على المنطقة، وإعادة رسم خرائطها من جديد.

النظام الإقليمي العربي... قمّة

يعوّل الكثير من المراقبين، على ما سوف تنتهي اليه القمّة العربية التي تستضيفها مصر مطلع مارس/آذار المقبل من قرارات تعكس موقفًا عربيًا مُوحّدًا في لحظة استثنائية من تاريخ أمّة، لا تزال على الرَّغم من كل التحديات التي تواجهها، تعاني حالة واضحة من الانقسام، في ظلّ مصالح جيوسياسية متنافسة، تؤسِّس لمشهد إقليمي عربي شديد الاضطراب، وغير قادر على الفعل في مواجهة هذه التحدّيات.

يبدو المشهد الإقليمي العربي قبيل أيام من انطلاق القمّة المقبلة، أقرب ما يكون إلى قشّة في مهبّ رياح عاتية، فالمناورات الأميركية الرّامية لترسيخ فكرة تهجير سكان قطاع غزّة تتواصل على نحو محموم، لتشمل القاهرة والأردن تارةً، وتضمّ المملكة العربية السعودية الى القائمة تارةً أخرى، غير عابئة بما يُطرح من أفكار عربية لإعادة إعمار القطاع من دون تهجير أهله، ولا بما قطعته دول خليجية على نفسها من تعهّدات، بتوفير التمويل اللازم لتنفيذ هذه الأفكار، التي تستهدف عودة الحياة إلى طبيعتها في غزّة، خلال فترة تتراوح ما بين ثلاث وخمس سنوات، ولعلّه يكون التحدّي الأكبر أمام القمّة المقبلة، التي يتعيّن عليها أن تدرك، حسبما يقول الدكتور أكرم بدر الدين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، أنّها في مواجهة لحظة حاسمة من شأنها أن تحدِّد مصير المنطقة، باعتبارِها الممثل الشّرعي الاوّل للنظام الإقليمي العربي، وهو ما يفرض عليها بالضرورة أن تنتهي في قراراتها إلى برامج عمل واضحة للتعاطي مع التطوّرات التي تشهدها المنطقة العربية، والتي لن تؤثّر فحسب في مصر أو فلسطين أو الأردن، لكنّها تمتدّ لتشمل المنطقة العربية برمّتها.

لا يُبدي الكثير من المراقبين تفاؤلًا حول ما قد تنتهي إليه القمّة المقبلة من قرارات، إذ يتعلّق الأمر على نحوٍ كبير بالآليات الحاكمة للجامعة العربية، فعلى الرَّغم من أنّها تُمثّل التعبير الأبرز عن الإقليمية في العالم العربي، إلّا أنّها، حسبما يرى الدكتور ابراهيم عوض أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز دراسات الهجرة واللاجئين في الجامعة الأميركية بالقاهرة، تجسّد التعبير الأوضح عن فشل العالم العربي في تحقيق أهدافه المشتركة، فهي من جهة لم تتمكن من التوصل إلى حلٍّ مُرْضٍ وعادلٍ للقضية الفلسطينية، التي كانت سبب وجودها الأساسي لأكثر من سبعة عقود، مثلما لم تتمكن من جهة أخرى، من تحقيق أدنى درجات التنسيق والتعاون وربما التّماسك أيضًا في تصرفات الدول الاعضاء، وربما يرجع ذلك حسبما يرى ابراهيم إلى ميثاق الجامعة ذاته، الذي لا يتجاوز كونه مجرّد وثيقة بسيطة، تتألّف من مقدمة وعشرين مادة، ومن ثمّ فهو لا يقارن بأيّ حال، بالمواد الـ111 التي يتألّف منها ميثاق الأمم المتحدة، أو المواد الـ112 التي يتألف منها ميثاق منظمة الدول الأميركية، أو حتّى المواد الـ33 التي يتألّف منها القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي، الذي اعتُمد بعد نحو خمسة وخمسين عامًا من إنشاء جامعة الدول العربية!.

تنكأ القمة العربية المقبلة جراحًا عميقة في الجسد العربي، وتعيد للذاكرة الشعبيّة ذكريات تلك الفترة الذهبية التي شهدتها المنطقة خلال الفترة الممتدة ما بين أزمة السويس عام 1956، حتّى نكسة يونيو/حزيران عام 1967، وهي الفترة التي يَنظر إليها الكثير من المحلّلين باعتبارها النّواة الصلبة التي شكّلت ملامح النظام الإقليمي العربي، الذي تجلّى في هذا المشروع الكبير الذي أطلقه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، قبل أن يُمنى بانتكاسته الأولى بسقوط الوحدة مع سوريا، ومن بعدها هزيمة عام 1967، التي مثلت البداية الحقيقية لسقوط النظام العربي الذي سرعان ما تهاوى بعد انتهاء المشروع الناصري برحيل مؤسِّسه، ليكتمل التصدّع بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، ومن بعدها سقوط بغداد في أبريل/ نيسان عام 2003، وهي الضربة القاضية التي ترتّب عليها إضعاف القوى العربية، في ظلّ الاعتماد الأساسي للقوى العربية الرئيسيّة على الولايات المتحدة الأميركية، كمصدر رئيس لتوريد الأنظمة التسليحية المختلفة، إلى جانب نجاح الأخيرة في إيجاد قواعد عسكرية مسـتقرّة في المنطقة، ما حوّل الولايات المتحدة إلى ما يُشبه الضامن الأكبر للنظام الأمني العربي في تلك البلدان، في ظل الوجود العسكري المباشر، بالتّوازي مع الدعم القوي لإسرائيل وأمنها، بل وبناء قوتها عبر تحالفها معها في العديد من الاتفاقيات الاستراتيجيّة.

منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، والنظام الإقليمي العربي يتميّز عن غيره من النُّظم الإقليمية أو الفرعية الأخرى، بسمته القومية الداعية إلى وحدة الشعوب العربية، باعتبارها أمّة واحدة لها الحقّ في إقامة دولتها الموحّدة، وإنهاء واقع التجزئة الذي تعيشه، لكنّ هذه الوحدة ظلّت على مدار عقود حلمًا صعب المنال، على الرَّغم من توقيع العديد من اتفاقيات التعاون المشترك، التي ظلّت هي الأخرى تُمثّل حبرًا على الورق، قبل أن يفيق النظام العربي على مواجهة صعبة، مدفوعًا من دون جاهزية، للاشتباك مع ‏مشروعات إقليميّة ثلاثة جاهزة للنّزال والطّعن، يتصدّرها المشروع الصهيوني الرّاغب في الهيمنة الكاملة على المنطقة، إلى جانب المشروعيْن الإيراني والتركي، وهو ما بات يدفع باتجاه ضرورة إعادة النظام العربي النّظر في العديد من استراتيجياته وتحالفاته، على نحوٍ لا يلبّي مصالحه واحتياجاته المُلحّة فحسب، وإنما يساهم أيضًا في مواجهة التحدّيات القائمة والمحتملة، من دون اعتماد على الدور الأميركي الذي تقوم استراتيجيته المعلنة في المنطقة العربية منذ عقود، على تنفيذ المصالح الأميركية والإسرائيلية فقط، من دون النظر لأيّ اعتبارات أخرى. فهل تنجح قمّة العرب "الأخيرة"، في استعادة زمام المبادرة؟!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن