شكل احتضان الرياض للقاء الأول رفيع المستوى بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا حدثاً مميزاً أظهر تنامي دور المملكة العربية السعودية على الساحة الدولية. ولكنه في الوقت عينه أظهر الترابط بين الحرب في أوكرانيا والتطورات التي شهدها الشرق الأوسط خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
فمنذ لحظة اندلاع هذه الحرب في شباط/ فبراير 2022، شعرت دول المنطقة بتداعياتها الاقتصادية، بخاصة تأثر أسعار النفط وواردات القمح والحبوب من روسيا وأوكرانيا. وتعرضت دول المنطقة لضغوط كبيرة من روسيا والدول الغربية لتتخذ مواقف منحازة. وضغطت واشنطن على دول الخليج لزيادة إنتاج النفط لمنع ارتفاع أسعاره عالمياً. وتأثرت الدول التي تعتمد على الأسلحة الروسية بسبب تراجع صادرات موسكو العسكرية نتيجة الحرب، بالإضافة إلى العقوبات الغربية التي فرضت عليها. ورداً على محاولات الغرب عزلها، وثّقت روسيا علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع إيران التي تعتبر اليوم حليفاً استراتيجياً لموسكو.
لكن الحرب الأوكرانية أثّرت سلباً على روسيا وإيران، إذ تراجعت مكانتيهما في المنطقة بشكل كبير. فالحرب قيدت قدرات روسيا العسكرية وقلصت حجم وجودها العسكري في سوريا، ما أثّر على عملياتها عندما احتاجها النظام في دمشق. وقرار طهران تزويد روسيا بمسيرات "شاهد" الانتحارية وبذخائر متنوعة، قوّض علاقاتها مع الدول الأوروبية التي تبنت مواقف متشددة من سياسات طهران، وتحديداً برنامجها النووي ودور وكلائها في المنطقة.
وجاء هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ليطلق حرباً واسعة في المنطقة ضد ما يعرف بمحور الممانعة بقيادة طهران. فقدمت واشنطن ودول أوروبية رئيسية دعماً كبيراً لإسرائيل مكّنها من تحقيق مكاسب كبيرة في غزة ولبنان وسوريا قلصت نفوذ طهران الإقليمي بشكل كبير.
ومع انهيار النظام في سوريا، فقدت إيران الجسر الرئيسي الذي مكّنها من بناء نفوذها في المنطقة عبر ميليشياتها، وانهار ما يسمى بالهلال الشيعي. كما خسرت روسيا حليفاً أساسياً وفّر لها موقعاً عسكرياً في منطقة حوض شرق المتوسط والحدود الجنوبية لحلف الناتو. وتحاول موسكو جاهدة مع الإدارة الجديدة في دمشق الحفاظ على إحدى قواعدها في سوريا. وبسبب حرب أوكرانيا، لم تتمكن روسيا من تقديم أسلحة متطورة إلى إيران، وتحديداً لتعزيز دفاعاتها الجوية، ما سهل عمليات القوات الجوية الإسرائيلية بالغارات التي شنتها ضد مواقع عدة في إيران.
لم تنجح الضغوط الأميركية في إجبار الرياض على تخفيض إنتاج النفط، ما مكّن أوبك من المحافظة على مستوى أسعار مرتفع نسبياً. ولم تلتزم قوى عدة في آسيا مثل الصين والهند العقوبات الغربية على النفط الروسي. ولذلك، لم يتمكن الغرب من خنق روسيا مالياً ودفع اقتصادها إلى الانهيار. واستخدمت أوكرانيا قوتها الاقتصادية لتحسين قوتها الناعمة في الشرق الأوسط لمواجهة النفوذ الروسي إقليمياً، فحسنت علاقاتها مع السعودية، والإمارات العربية المتحدة وتركيا، على أمل التأثير على النفوذ الروسي. ونجحت الرياض وأبو ظبي في استثمار العلاقات القوية مع الطرفين للعب دور في حل النزاع بينهما، وقامتا برعاية عمليات تبادل الأسرى بينهما في أكثر من مناسبة. كما استضافت جدة عام 2023 اجتماعاً دولياً بشأن السلام في أوكرانيا.
وبحسب معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فإن شكل الاتفاق الذي قد يتم التوصل إليه بين موسكو وكييف برعاية واشنطن، سيؤثر على وضع روسيا وإيران في الشرق الأوسط. ويقول تقرير أخير للمعهد إن أي قرار يكون لمصلحة موسكو سيؤدي إلى إحياء دورها مجدداً في المنطقة، وهذا بدوره سينعكس إيجاباً على طهران. وانتهاء الحرب سيمكّن روسيا من زيادة صادراتها العسكرية، بخاصة إلى إيران التي تسعى للحصول على صواريخ أرض-جو بعيدة المدى طراز اس-400 ومقاتلات سو-35.
كذلك فإن رفع العقوبات الأميركية عن روسيا سيحسن علاقاتها الاقتصادية في المنطقة. لكن الخلاف الظاهر بين معظم الدول الأوروبية وإدارة الرئيس دونالد ترامب بشأن شروط إنهاء حرب أوكرانيا، قد يعقد أو يؤخر اتفاق السلام المنشود. كما أن احتمال رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اقتراحات ترامب لإنهاء الحرب يبقى وارداً، ما سيؤدي إلى تشديد العقوبات الأميركية على روسيا، وهذا سينعكس سلباً على وضعها هي وإيران في الشرق الأوسط. وفي نهاية المطاف، ترابط النزاعات بين المناطق سيشكل الاتجاه العالمي الجديد مع تفاقم الصراع بين القوى العظمى على أكثر من جبهة. وعليه، يستحسن للقوى الصغيرة والمتوسطة أن تتقن استخدام أدوات قوتها الناعمة لممارسة الحياد الإيجابي.
(النهار اللبنانية)