تلاحظ المجلة أيضًا أنّ العنف في دول الساحل هو أمرٌ مستفحلٌ، فمنذ عقد من الزمن، ومنطقة الساحل لم تستطع الانفلات من الأزمة الأمنية المستمرّة والتي قوّضت أسُس الاستقرار وجعلت فضاء الساحل جاذبًا لمختلف الجماعات الإرهابية وأنماط العنف.
امتلاك قادة المنظمات الإرهابية موارد مالية مهمّة ساعد تلك الجماعات على فرض سلطتها ونظامها
وفي الحوار الذي أجرته هيئة تحرير المجلة مع السفير الفرنسي نيكولا نورماند، وهو باحث أيضًا في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية ومؤلف كتاب "أفريقيا: الفوضى أو ظهور جنوب الصحراء" والذي صدر سنة 2022، يرى نورماند أنّ أسباب العنف في الساحل هي كامنة في البطالة وانعدام الأفق للشباب وتهميش الدولة للمناطق الريفية وانعدام الشرطة والمرافق الحكومية الضرورية، ممّا مكّن الإرهابيين من الانتشار وفرض وجودهم. وتعود أسباب الأزمة الأمنية كذلك إلى امتلاك قادة المنظمات الإرهابية لموارد مالية مهمّة، مُحصَّل عليها من مصادر متعدّدة، ومن ذلك أموال فدية الرهائن والضرائب المفروضة على الأهالي، والتجارة بكلّ أصنافها. وقد ساعد هذا الوضع تلك الجماعات على فرض سلطتها ونظامها. كما يُفسّر السفير السابق هذه الأزمة بدور فرنسا والدول الغربية، في عدم قدرتها على تكييف مساعدتها لدول الساحل، بما يكفي للحدّ من تردّي الأوضاع. وفي هذا السّياق، لم تكن العمليات العسكرية مُجدية. وفي سبتمبر/أيلول 2024، لقيت القوات العسكرية في مالي وقوات "فاغنر" هزيمةً من طرف الانفصاليين.
وفي بوركينا فاسو فإنّ الوضع في تأزُّم مستمر، حيث أكّد مؤشر الإرهاب العالمي لسنة 2024، أنّ بوركينا فاسو هي البلد الأكثر تأثُّرًا بالإرهاب في العالم، وقد بلغ عدد الهجمات الإرهابية فيها حوالى 8751 لسنة 2023، وجاءت مالي في المرتبة الثالثة والنيجر في المرتبة العاشرة والكونغو في المرتبة 13.
الساكنة الفقيرة في الأرياف هي الأكثر عرْضة للآثار الوخيمة للهشاشة الأمنية
كما ساهمت ميليشيات الدفاع الذّاتي في تعقيد الأمور، بالإضافة إلى الانقلابات العسكرية وانسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر سنة 2022 من مجموعة الخمس للساحل. ويرى السفير الفرنسي كذلك أنّ انسحاب القوات الفرنسية من مالي سنة 2022، ومن بوركينا فاسو والنيجر سنة 2023، وانسحاب الولايات المتحدة الأميركية سنة 2024، كان له تأثيرٌ مُهِمٌّ في المنطقة. ولقد أدّى انسحاب القوات الفرنسية إلى تشكيل تحالف دول الساحل في 16 سبتمبر/ أيلول 2023، وتقديم طلب إلى روسيا لدعم هذا التّحالف في الجانب الأمني.
من المعلوم أنّ الساكنة الفقيرة في الأرياف، والتي لا تحظى بأيّ حماية، هي الأكثر عرْضة للآثار الوخيمة للهشاشة الأمنية. وتحتل بوركينا فاسو المرتبة 113 في مؤشر "نورماندي للسلم"، والنيجر المرتبة 116 ومالي المرتبة 129.
كذلك خصصّت المجلّة حيّزًا لرصد الوضع في السودان التي تحتل المرتبة 116 في مؤشر "نورماندي للسلم"، وتحديدًا 4.57، وذلك بسبب الحرب بين أتباع عبد الفتاح البرهان وقوات "الدّعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو، حميدتي. ولقد ألحق هذا النّزاع ضررًا كبيرًا بالاقتصاد السوداني والوضع الإنساني، حيث تفاقم الفقر وارتفع مؤشر سوء التغذية، إلى جانب معاناة أكثر من 1.8 مليون سوداني.
وترصد المجلة أيضًا الوضع في الصّومال الذي يحتل المرتبة 133 في مؤشر "نورماندي للسِّلم"، والذي يعاني من أزمة سياسية واقتصادية وأمنية، حيث يواجه هجمات المنظّمات الإرهابية وكذلك النزاعات الانفصالية والتدخل الأجنبي.
منطقة الخليج الكوري أصبحت في قلب التوتّر الدولي
كما رصدت المجلّة الوضع في إثيوبيا التي تحتل المرتبة 122 في المؤشر، حيث تواجه بدورها تحدّيات أمنية واقتصادية وإنسانية وصراعات عِرقية وسياسية. وعلى الرَّغم من إطلاق آبي أحمد علي، أعمال اللجنة الإثيوبية للحوار الوطني، في سنة 2024، من أجل البحث عن سبُل مصالحة وطنية، فإنّ أطياف المعارضة لم تنخرط في المبادرة.
وتطرّقت المجلة كذلك الى الوضع الأمني في تشاد الذي يحتل المرتبة 135 في مؤشر "نورماندي للسلم"، والذي يعاني من أزمة اقتصادية وغذائية ومن التغيّرات المناخية والهشاشة الأمنية المرتبطة بالسياق الأمني في حوض تشاد. إنّه الوضع الأمني المتردي نفسه الذي تعاني منه نيجيريا باعتبارها من دول المنطقة، وتحتل المرتبة 115 في المؤشر، وتخصِّص نسبةً مهِمّةً من ميزانيتها لمكافحة الإرهاب ومواجهة تمدّد "بوكو حرام"، كما تواجه مشكلة الفساد والرشوة والصّراع العِرقي والسياسي. وتواجه الكاميرون بدورها، تحدّيات أمنية مرتبطة بالوضع في حوض بحيرة تشاد.
وخصصّت المجلة كذلك رصْدًا للنّزاعات في مناطق محدّدة من آسيا وهي تايوان وبورما والفيليبين وكوريا الشمالية. وأكد الباحث اغنولوفو من معهد آسيا الشرقية على أنّ منطقة الخليج الكوري، قد أصبحت في قلب التوتّر الدولي، ذلك أنّ كوريا الشّمالية ما زالت تُشكّل تهديدًا للمنطقة، وهي في نزاع مستمر مع كوريا الجنوبية، كما أرسلت جنودًا لدعم روسيا في حربها ضدّ أوكرانيا، من أجل الاستفادة من طرق وتكتيك الحرب الحديثة واستعمال الطائرات المُسيّرة والمدفعية. وهذا في حدّ ذاته مؤشر لاستعداد كوريا الشّمالية لمشهد مستقبلي لحرب مع كوريا الجنوبية. وهذا أمر يُقلق كوريا الجنوبية ما جعلها تلجَأ إلى تعزيز علاقتها مع اليابان والولايات المتحدة الأميركية وكذلك حلف الناتو. وإذا كان البند 10 من معاهدة حلف الناتو يحدّ من انضمام كوريا الجنوبية إلى الحلف، فإنّها على الرَّغم من ذلك رسّخت علاقة شراكة معه، بحيث أصبحت من أهمّ مزوّدي بولندا بالأسلحة وقطع الغيار العسكرية والتي تُعتبر سوقًا مُهمَّة للأسلحة في أوروبا، إضافة إلى أنّ تقارب كوريا الشمالية مع روسيا، كان سببًا لدعم كوريا الجنوبية لأوكرانيا. ومعلوم أنّ كوريا الجنوبية تحضُر منذ 2022 اجتماعات وزراء دفاع حلف الناتو.
وتُعتبر تايوان بدورها في قلب الصراع الدولي بين الصين وأميركا، كما تُواجه باستمرار التهديد الصيني؛ وتسعى تايوان لتعزيز شراكتها الدفاعية والأمنية مع أميركا ويمكن أن ينخرط في ذلك اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية مما سيجعل الوضع الجيوسياسي مُعقّدًا جدًّا.
المعضلة الأمنية العالمية هي في تعقّد مستمر ولا يلوح في الأفق بوادر الانفراج مع سيادة منطق التغالُب والهيمنة
أمّا الفيليبين التي تُصنّف في المرتبة 92 من مؤشر "نورماندي للسلم"، فإنّها تعاني من مؤشرات مرتفعة في الإجرام، بل هناك آلاف من الأشخاص ماتوا في "الحرب ضدّ المخدرات". كما تعاني من الإرهاب وجماعات متمرّدة. أمّا دولة بورما أو ميانمار، فتحتلّ المرتبة 124 من المؤشر نفسه، حيث تعاني من الفوضى والعنف جرّاء الانقلاب العسكري وكذلك من الفقر والنزاعات العِرقية وانتهاك حقوق الإنسان. وتواجه كذلك مشاكل جمّة بسبب التغيّرات المناخية والتضليل الإعلامي.
حاصل الكلام في هذا العرض، أنّ الرّصد الذي قامت به المجلة لنزاعات العالم، يؤكّد من جديد على الهشاشة الاستراتيجية في عدّة مناطق والحاجة إلى سياسات احتواء للمعضلة الأمنية العالمية التي هي في تعقّد مستمر ولا يلوح في الأفق بوادر الانفراج مع سيادة منطق التغالُب والهيمنة.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")