صحافة

دروز سوريا ومخيّلة نتنياهو: عطب المخلّفات

صبحي حديدي

المشاركة
دروز سوريا ومخيّلة نتنياهو: عطب المخلّفات

إذا كان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو يزعم مواصلة الانتماء إلى أيّ من مخلفات التفكير الصهيوني المعاصر، أو "ما بعد الصهيونية" كما يحلو لبعض المنظّرين توصيف الحال؛ فإنّ تصريحاته الأخيرة (أنّ دولة الاحتلال "لن تقبل بأيّ تهديدات للدروز في جنوب سوريا") تندرج تلقائياً ضمن ما يُخلّف، أو يتخلف بالأحرى، من تحريف صهيوني فضحه السجلّ التاريخي، وبات بعض المؤرخين الإسرائيليين أنفسهم يأنفون من إعادة اجتراره.

صحيح، بالطبع، أنّ بناة الكيان الصهيوني الأوائل تعمدوا التمييز بين "العرب" و"الدروز"، أي بين الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين من جهة، ومكوّن الموحدين بصفة منفردة وحصرية من جهة ثانية؛ وبالتالي مُنح الدروز مزايا خاصة مثل إلزامية الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، والانخراط في الجيش وحيازة الرتب القيادية. ومنذ عام 1957 شجعت الحكومة الإسرائيلية مفهوم الهوية "الدرزية الإسرائيلية، ومنحت المدارس الدرزية استقلالية واضحة بالمقارنة مع المناهج العربية الفلسطينية والعبرية الإسرائيلية.

الصحيح، في المقابل، أنّ الأبحاث التاريخية المنعتقة من السردية الصهيونية حول علاقة الدروز بالكيان أثبتت، وتواصل تسليط أضواء جديدة على، حقيقة جدلية ثلاثية الأبعاد حول انحيازات دروز فلسطين قبل 1948 وبعد النكبة: المشروع الاستعماري ممثلاً بالانتداب البريطاني، والقوى ذات التوجهات القومية العروبية في المراكز المدينية، والمجموعات المناهضة للصهيونية على اختلاف توجهاتها. هذه أبحاث ليلى بارسونز ويوآف غلبرت، إلى جانب زيدان عطشي وقيس فرو وسعيد نفاع…

أمّا دروز سوريا فإنّ تنطّح نتنياهو للدفاع عنهم لا يعبث، عن سابق عمد مفضوح مكشوف، بالواقع التاريخي والاجتماعي والسياسي والوطني والديمغرافي للمواطنين السوريين في جبل العرب ومحافظة السويداء وحيثما تواجد الدروز في سائر أرجاء سوريا، فحسب؛ بل هو، على نهج نتنياهو الأثير، استغفال للعقول، واستغباء للمنطق الأبسط، و… خيانة، معلَنة في وضح النهار، للتفكير الصهيوني المعاصر ذاته!

تظاهرات الاحتجاج الشعبية ضدّ تصريحات نتنياهو، التي عمّت عدداً من المدن السورية وليس في المناطق ذات الأغلبية الدرزية وحدها، كانت الدليل الأبكر على رفض "الحماية" الصهيونية، وتأكيد الانتماء إلى سوريا الجديدة المتحررة وغير القابلة لأي تقسيم. لكنّ سجالاً مضاداً، إسرائيلياً هذه المرّة، اتكأ بدوره على ما تبقى من "فقه" صهيوني حول التاريخ والاجتماع والمذاهب والعقائد، وحول الحدود الدنيا من الصواب العقلي مقابل الهذر والحماقة.

فإذا لم تكن هذه بمثابة صفعة أولى يتلقاها نتنياهو جزاء ترهاته بصدد دروز سوريا، وجنوب البلاد عموماً وفي آن معاً، فإنّ صفعة أخرى يتوجب أن تظلّ حاسمة ومؤلمة لأنها دائمة ولا تقتصر عليه وحده، بل تشمل جميع ساسة دولة الاحتلال الذين عملوا على ضمّ هضبة الجولان السورية المحتلة إلى الكيان الصهيوني، ومنذ أواخر العام 1981. فلا حملات التنكيل والاعتقال والترهيب والترغيب نفعت دولة الاحتلال في إقناع غالبية أبناء الجولان بقبول الهوية الإسرائيلية، ولا اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمستوطنات الهضبة أوهن تصميم الجولانيين.

السنوات الـ58 التي أعقبت احتلال أجزاء واسعة من هضبة الجولان أثبتت شل مشاريع الاحتلال لإقحام الهوية الإسرائيلية، ومثلها عجزت سياسات الأسدَين الأب والابن في أداء دور حارس أمين يحفظ أمن المحتل في جبل الشيخ وتل الفرس والقنيطرة ومجدل شمس وسواها من أراض سورية محتلة.

وبالتالي فإنّ السنوات المقبلة مرشحة لمتغيرات يمكن أن تقلب حسابات الاحتلال رأساً على عقب، وليس مستغرباً أن يصرّح وزير الدفاع الإسرائيلي بأنّ دولة الاحتلال لا تثق بالسلطات الجديدة في سوريا، على نقيض (كما يمكن الاستنتاج) من الثقة التي تمتعت بها "الحركة التصحيحية" منذ 1972 واتفاقيات خيمة سعسع. وفي هذا بعض مؤشرات مستجدة على عطب عميق ألمّ بمخلّفات التفكير الصهيوني المعاصر، أو بطبعته التي يزعم نتنياهو اعتناقها على الأقل.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن