بصمات

فعل المواطَنة في السياق العربي: المنطلقات والمآزق

معلوم أنّ المواطَنة، من الناحية التاريخية، هي فكرة ارتبطت بالإرث اليوناني، في إطار تأطير المشاركة الديموقراطية الفاعلة، بماهية حق قانوني لكل مواطن يوناني، في تدبير الشأن العام للدولة وإدارتها، وقد انتقل المفهوم لاحقًا إلى أوروبا إثر التحوّلات السياسية التي عرفتها القارة العجوز خلال القرن الثامن عشر، إذ تمّ إرساء مبدأ المواطَنة بالتزامن مع تشكّل الدولة القومية الأوروبية الحديثة، وهكذا تمّ تعزيز هذا الحقّ كضرورة لممارسة الفعل الديموقراطي الذي تؤطّره الدولة مع الإعلان الفرنسي لحقوق الانسان الذي جاءت به الثورة الفرنسية (1789)، وهو ما تم بلورته لاحقًا، وفي سياق عالمي، مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1948.

فعل المواطَنة في السياق العربي: المنطلقات والمآزق

إنّ عملية الانتقال السلِس والبَنّاء للمفهوم من الإرث اليوناني إلى السياق القومي الأوروبي لم تكن العملية نفسها في السياق العربي، إذ انعكست منهجية الحركات الإمبريالية على التوجّهات السياسية العربية، حيث ورثت أغلب الأنظمة العربية الإسلامية منهج القمع والتسلّط من الإرث الاستعماري. وكما حاولت الحركات الإمبريالية تنزيل الإطار الحداثي السياسي في الدول العربية بالقوّة والسلاح، سارت على دربها الأنظمة السياسية، وعلى الرَّغم من محاولة التماهي مع المشروع الاستعماري في بلورة دولة حديثة، إلّا أنّ عمق البنية المجتمعيّة ظلّت محافِظة بشكل ما على بقايا النظام القديم. وعلى الرَّغم من ارتفاع الوعي الشعبي العام بالقانون وبالدولة الوطنية، إلّا أنّ فاعلية وجدوى هذه الممارسة سواء من الناحية النظرية أو العملية ما زالت غير واضحة ولا محدَّدة المعالم.

تلعب الدولة دورًا مضادًّا لمأسَسة وتنمية مفهوم المواطَنة ممّا رسم انفصالًا بين كلّ من القاعدة التحتية والفوقية

قد يعود الأمر إلى الوتيرة البطيئة التي رافقت مساريْن: مسار فعل المواطَنة ومسار الدولة الوطنية، والحال أنّ هذا التفاوت ما بين المساريْن أنتج عتمة مفهومية لكلّ من المفهومين، حيث تختلط في هذا السياق العديد من السِّمات التي قد تصل حدّ التناقض، على الرَّغم من أنّ مفهوم المواطَنة يُعتبر أحد أعمدة تشكّل الدولة الحديثة إلّا أنّ الدولة قائمة، كإطار عام، وتسبق بدرجات فعل المواطَنة، كفعل يؤسِّس لجوهر البنى الحداثية في الدولة الوطنية.

لهذه الاعتبارات وغيرها، تَشكَّل تناقضٌ داخليٌ ما بين الدولة والمواطن، حيث تلعب الدولة دورًا مضادًّا ومعرقِلًا ومهمِّشًا لمأسَسة وتنمية مفهوم المواطَنة، ما دامت الدولة الوطنية تقوم على أولويّة السلطة أو الدولة على الفرد/المواطِن، الأمر الذي أفقد البُعد الديموقراطي أهمّ مقوماته، وهو أمرٌ تمّ تبريره في البداية بذريعة أولوية التوجّه القومي، إلّا أنّه صار واقعًا لممارسة سياسية تتغذّى على البُعد الوحدوي والسلطوي في آن، ممّا رسم انفصالًا بين كلّ من القاعدة التحتية والفوقية. ليس هذا وحسب، فقذ ظلّ هذا البون حاضرًا بشكل محايث، في الوعيِ الجمعي أو في الواقع العملي، ممّا جعل المواطن يعيش على وقعه بكثير من الحميميّة والتعايش السلمي، حتّى وإن اتّخذ في العمق وجهة سلطوية.

تمّ إفراغ محتوى المفاهيم السياسية للدولة الديموقراطية بما يتوافق والأهداف السلطوية

ترجم هذا التعايش انفصالًا ذهنيًّا يؤسِّس في ذاكرة الفرد أمجادًا للبُنى التقليدية وكذا تماهيًا مع الدولة الحديثة، على الرَّغم من ضبابيّتها، لأنّها واقع لا مناصَ منه، الأمر الذي ولّد توجهات إيديولوجية تتّسم أو تنهل من التطرّف أو التشدّد. التوجهان العِلماني والدّيني على الرَّغم من تناقضهما، يعكسان معًا توجّهًا نحو ممارسة وصاية على المواطن، سواء بدعوى الحتمية التقدّمية أو الغاية الدينية الخيّرة، ممّا هيّأ للبُنى السلطوية مساحة للمراوغة تمارس من خلالها الوصايتين معًا، بما يتوافق واستمرار السلطة السياسية وتعاظمها.

تأسيسًا على ما سبق، يمكن أن نخلص إلى ما يلي:

- مفهوم المواطَنة ليس مجرّد تكوين سياسي يجب أن يتماهى بالضرورة مع مقوّمات الدولة الديموقراطية، بل هو بالأساس منظومة وجودية ومعرِفية تخلق هوية للمواطَنة توافق نمط العقلانية السياسية التي تم تأطيره وفقها، فتصير هذه الأخيرة تسييجًا يُقَوْلِبُ وجود الفرد الذي يفكّر ويتحرك من خلاله وعبره. لكي يصير الفرد مواطنًا يجب أن يعكس سمات مُعَيّنة تعبّر عن هوية الدولة الوطنية، ولأنّ المواطَنة هي أساس المجال النظري والممارسة الديموقراطية، فإنّ تحديد أبعادها وكيفية ممارستها ينبع من الطريقة التي يمنح بها النظام السياسي حقوق المواطَنة لأفراده وكذا مدى وعي المواطنين بأداء هذه الحقوق والواجبات والالتزام بها.

- لم تُسطِّر الدولة الوطنية تحدّيات حقيقية لبناء الترسانة المُهَيِّئة لإنجاح الدولة الوطنية ككل، بل حاولت أن تدمج بشكل متناقض بين التوجّه السلطوي والإطار العقلاني للدولة الحديثة، وبالنتيجة، تمّ التحايل على المنطق الديموقراطي لبلْورة توجه لاديموقراطي بغيّة تحقيق وصاية على المواطنين لعدم جاهزيتهم لممارسة الفعل السياسي أو بدعوى دراية البنية الفوقية بمصالح الشعب بدل عنهم، بحيث صار المواطن مجرّد رقم في المعادلة السياسية من دون أن يكون فاعلًا فيها، وتمّ إفراغ محتوى المفاهيم السياسية للدولة الديموقراطية بما يتوافق والأهداف السلطوية.

المواطن العربي يتقوقع في بؤرة انفعالية ذاتية تنتمي للهوية الوطنية وتنفصل عنها في الآن نفسه

- لقد تمّت بلورة الواقع السياسي العربي وفق مفهوم القيادة العليا المنفصلة عن البُنى التحتية، ممّا جعل العلاقات الخارجية تنحو نحو ازدواجية في التعامل مع الواقع العربي، في أفق دعم تلك البُنى السلطوية إن توافقت ومصالح هذه الدول، أو شيطنتها وإزالتها إن انزاحت عن المطلوب، الأمر الذي حوّل المواطن العربي إلى ما يُشبه المتفرّج الذي يتقوقع في بؤرة انفعالية ذاتية تنتمي للهوية الوطنية وتنفصل عنها في الآن نفسه.

- ما زال الواقع العربي الرّاهن عاجزًا عن مواجهة القوى العالمية وخطّها السلطوي، وهو بالنتيجة واقعٌ يعيش على وقع انفصال داخلي يُمثّل فيه المواطن دور المتفرّج النّاقم على القوى الداخلية والخارجية، والمنتظِر أيضًا لدور فعّال للبُنى السلطوية، في حين تعيش السلطة على وقع أمريْن: نتائج التراكم التاريخي لعملية تهميش دور المواطن وعقوبة مواجهة القوى الخارجية، فيمثّل تحقيق التوازن بين الأمريْن أهمّ تحدٍّ أمام السلطة، ممّا يُفقد هيكلة الدولة الوطنية إطارها الديموقراطي ويخندق وجودها في بؤرة السلطة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن