من الجدول أدناه، نلاحظ أنّ الزراعة توظّف 17.7% من العمالة العربية، ولكنّها تنتج 6.1% من النّاتج المحلي الإجمالي العربي. ونتيجةً لذلك، يبلغ النّاتج الزراعي العربي لكل عامل عربي 6.746 دولارًا فقط، أي أقل بحوالى 1.500 دولار من دخل الفرد العربي. ويتجلّى النقص بالأخصّ في الحبوب، بحيث يأتي 37% فقط من الزيادة في النّاتج من تحسين المحصول و67% من التوسّع في المساحة مقابل متوسطيْن عالمييْن يبلغان 95% و5% على التّوالي، وتبلغ نسبة الاكتفاء من الحبوب 43.6%[1]. ويُلاحَظ التأثير السلبي لهذا الأداء في مستويات المعيشة والفقر، حيث يشكّل سكان الرّيف والزّراعة 39.7% و20.3% من إجمالي السكان على التوالي. والشيء نفسه بالنّسبة للتأثير الملحوظ في العجز التجاري وميزان المدفوعات، حيث بلغ العجز التجاري في الزراعة 87.7 مليار دولار أميركي في عام 2022، أي ما يقرب من 44 مليار دولار أميركي للسلع الأساسية وحدها[2]. وعلى الرَّغم من أنّ الاعتماد على الواردات يمكن أن يكون تدبيرًا مؤقتًا لسدّ الفجوة، إلّا أنه يمكن أن يُعرِّض الأمن الغذائي للخطر إذا ظلّ - كما هي الحال - ضخمًا ومستمرًا[3].
الأسباب الكامنة وراء هذا الأداء المتدنّي كثيرة ومتنوّعة. فيمكن للمرء أن يستشهد بندرة المياه، حيث إنّ الزراعة في أكثر من نصف الأراضي الصالحة للزراعة هي زراعة بعليّة، التي تواجه تحدّيات انخفاض الإنتاجيّة وعدم القدرة على التنبّؤ بهطول الأمطار، وهي تحدّيات تتزايد مع تغيّر المناخ. كما يمكن للمرء أن يستشهد بالصّراعات وانعدام الاستقرار السياسي، لا سيما في البلدان الغنيّة بالزراعة مثل السّودان وسوريا. ولكن، ربّما الأهم من ذلك، يمكن للمرء أن يذكر السياسات السيّئة وبيئة العمل غير الفعّالة. في هذا السّياق، هل يمكن أن تكون سياسة التكامل الزراعي العربي هي السياسة الصحيحة لسد الفجْوة الغذائية؟
الجواب على السّؤال أعلاه هو أنّه للوهلة الأولى قد يبدو كذلك بالفعل. فالصادرات الزراعية البيْنية بين الدول العربية تُمثّل 46% من إجمالي الصادرات الزراعية العربية بحوالى 22 مليار دولار، وهي أعلى بكثير من نسبة 12% من الصّادرات العربية البيْنية في جميع السلع، بل إنّ بعض دول مجلس التعاون الخليجي والمشرق/ العربي يذهب أكثر من نصف صادراتها الزّراعية والغذائية إلى دول عربية أخرى[4].
التكامل الزراعي العربي ليس كافيًا للقضاء على الفجْوة الغذائية أو إحداث تأثير كبير فيها
لا شكّ أنّ اتفاقية التجارة الحرّة العربية، بالإضافة إلى السوق الخليجية الموحّدة واتفاقية أغادير[5]، لعبت دورًا حاسمًا في تعزيز التجارة الزراعية البيْنية. وفي هذا الإطار، يمكن فعل المزيد، خصوصًا إذا ما تمّ شمول هذه الاتفاقيات لجميع السلع الزراعية وإذا ما تمّ إحراز تقدّم نحو اتحاد جمركي عربي وتعريفة خارجية مشتركة[6]، وإذا ما تمّ تشجيع الاستثمار الزراعي المستدام للدول العربية الغنية برأس المال في الدول العربية الغنية بالأراضي الصالحة للزراعة.
لكن من الواضح أنّ التكامل الزراعي العربي - على الرَّغم من حجمه اللائق - ليس كاملًا وكافيًا للقضاء على الفجْوة الغذائية أو إحداث تأثير كبير فيها. فما هي إذن الاستراتيجية الأفضل والأكثر اكتمالًا لتحقيق ذلك؟
من وجهة نظرنا، يجب أن تتضمن هذه الاستراتيجية سياسات تُعالج المعوّقات "خلف الحدود" و"ما وراء الحدود". والأولى هي الأكثر جوهريّة لأنها تهدف إلى زيادة الإنتاجية الزراعية وكفاءة التشغيل، بخاصة في ما يتعلق بالمحصول في الحبوب. وهذا يعني من الناحية الفنية، السياسات التي تضمن تطبيق التّكنولوجيا والممارسات الحديثة في الزراعة؛ بالإضافة إلى التدابير التي تتصدّى لتغيّر المناخ، ووقف التصحُّر، والحفاظ على التسعير المحفِّز.
استطاعت إسرائيل زيادة إنتاجها الزراعي لكلّ عامل بأكثر من عشرة أضعاف الإنتاج العربي الحالي!
وعلى القدر عينه من الأهمية، هناك أبعاد سياسية واقتصادية لهذه السياسات أيضًا:
من الناحية السياسية، يجب أن تنطوي هذه السياسات على هيكل مؤسَّسي للدولة محكوم بشكل جيد وإنهاء النّزاعات؛
من الناحية الاقتصادية، يجب أن تتوفّر بيئة اقتصادية كلية مستقرّة ونظام مالي داعم. أما في ما يتعلق بـ "ما وراء الحدود"، فهي تنطوي عمليًّا على تدابير تُعزّز التكامل الزراعي وتيسير التجارة مع بقية العالم[7]، وذلك لتحسين فرص الوصول للأسواق وشروط التجارة، والتعامل بشكل أفضل مع الحواجز غير الجمركية (مثل الحواجز الصحية وحواجز الصحة النباتيّة)، والتكامل مع سلاسل القيم العالمية لقطاعات تجهيز الأغذية الزراعية. هذه بلا شك استراتيجية هائلة وصعبة، ولكن يمكن القيام بها. ولعدم وجود مثال أفضل، فقد تمكّنت إسرائيل من القيام بذلك في البيئة الإيكولوجية (الطبيعية) والجغرافية عينها التي تعيشها معظم الدول العربية، واستطاعت زيادة إنتاجها الزراعي لكلّ عامل بأكثر من عشرة أضعاف الإنتاج العربي الحالي!.
التركيز يجب أن يكون بالمقام الأول على التنمية فالتنمية الجيّدة تُسهّل التكامل
في الختام، على الرَّغم من أنّها استراتيجية ليست سهلة، إلّا أنّ ذلك ما تفعله جميع البلدان للحصول على قطاع زراعي قابل للاستمرار ولضمان الأمن الغذائي؛ وفي الحقيقة لقد تمّ ذلك ونفّذته بنجاح الدول المخلصة والجادة في التنمية الوطنية. والأهم أنها تبيِّنُ أنّ التركيز يجب أن يكون بالمقام الأول على التنمية وليس على التكامل، فالتنمية الجيّدة تُسهّل التكامل بشكل أفضل.
[1] يُشار إلى تحسين المحصول بالزراعة المكثفة داخليًا، وإلى التوسع في المساحة بالزراعة المكثفة خارجيًا.
[2] منها 21 مليار دولار من الحبوب.
[3] لاحِظ في هذا الصدد أنّ الدول العربية تستحوذ على حوالى ثلث واردات العالم من الحبوب.
[4] لاحظ أن معظم المنتجات الزراعية والغذائية في دول مجلس التعاون الخليجي تهيمن عليها المنتجات المصنّعة الغذائية ذات المصادر المحلية الصغيرة نسبيًا.
[5] كانت اتفاقية أغادير، الموقعة في عام 2004 كترتيب تجاري تفضيلي، في البداية بين المغرب والأردن وتونس ومصر، ولكن تم تمديد نطاقها في عام 2020 لتشمل لبنان وفلسطين.
[6] الإسكوا - تقييم التكامل الاقتصادي العربي 2019.
[7] يتضمن تسيير التجارة إجراءات تخفض كلفة المعاملات وتشمل كلفة النقل والتأمين والعمليات الجمركية السهلة.
(خاص "عروبة 22")